لا تخلطوا بين طبيعة العمل وبيئة العمل..
محمود الدباس.
كم تضايقني جملة "هاي طبيعة عملي" حين يقولها لي شخص.. واشتم رائحة الاستسلام والانقياد والتبعية والتقليد الاعمى وحتى الاستمتاع بالواقع الذي يمكن تغييره..
كانت لي تجربتان في هذا الامر.. ساسردهما بشكل سريع لعَلّي اوضح مقصودي من هذا العنوان..
الاولى.. كانت في اوائل التسعينيات.. فاول مركز عمل لي كان في الجامعة الأردنية.. وتحديدا في مركز الحاسوب.. حيث غمرتني الفرحة بان اعمل في واحد من اهم واكبر مراكز الحاسوب في الاردن حينها..
فكان المنظر مبهرا.. وانا اجلس قبالة اجهزة مركزية تُسيِّر اعمال ام الجامعات.. وما كانت الا بضعة ايام حتى افقت على آلام في مفاصلي جراء التبريد الشديد..
وكنا مجموعة من الزملاء نتبادل المكوث مقابل الاجهزة كل ربع ساعة..
وحين شكوت لمسؤولي المباشر.. قال لي هذه طبيعة عملك.. وطلبت منه ان اتحدث مع مدير المركز.. وكان مديرا أكاديميا متنورا.. وقلت له اننا نتعرض لبرد شديد.. وما المانع بان يتم وضع حاجز زجاجي بيننا وبين الاجهزة.. وسنبقى نراقبها بشكل مستمر.. وذهب معي الى غرفة الاجهزة.. وسرعان ما اقتنع.. وطلب من الدائرة الهندسية في الجامعة عمل القاطع.. واصبحنا نراقب عمل الاجهزة في بيئة صحية ومريحة.. دونما تأثير على طبيعة العمل.. ودونما تماس مباشر مع ما يؤذينا..
اما الثانية.. فكانت عندما عجز معظم الميكانيكية الذين اعرفهم عن اصلاح خلل في سيارتي.. فدلني صديق على واحد في منطقة ماركا.. وحين ذهبت اليه لم اصدق انني في كراج ميكانيكي.. وظننت انني في معرض سيارات للبيع.. فلا وجود للزيوت والشحوم على الارض.. والعدة التي يستخدمها خِلتُهم اشتروها للتوِّ من اجل سيارتي من شدة لمعانها ونظافتها..
وحين سألت صاحب الكراج عمَّا اشاهد.. قال لي.. نحن نضع قطعة بلاستيك تحت السيارة كما ترى.. ونلبس في ايدينا "كفوف" قفازات حتى لا تتسخ ايدينا.. ونلقيها في القمامة بعد الاستخدام.. فنحافظ على بيئة العمل.. وبالتالي على سلامتنا ونظافة اجسادنا.. ونظافة السيارة وصاحبها..
هاتان القصتان تجعلاني ارد على كل شخص يقول لي ان طبيعة عملي تتطلب مني اشياء معينة غير صحية.. او تمس بعض المبادئ التي تربيت عليها.. او تغيير لطباعي الراقية التي اتمنى ان استمر عليها.. او السلوكيات المخالفة لما اتمنى ان ابقى عليها.. او تتعدى على خصوصيتي فتخدش بعضا من الحياء او العفة او الحشمة ولا يمكن ان اغيرها.. بانه جانبك الصواب يا هذا..
فلكل عمل هناك طبيعة.. وله بيئة.. ويجب ان نفرق بينهما..
فالاستاذ الذي يعطي دروسا خصوصية في المنازل.. وطبيعة عمله تقتضي تدريس الطالبات.. يستطيع ان يطلب من طالبته الجلوس في مكان مكشوف في المنزل.. او على اقل تقدير يبقي باب الغرفة مفتوح..
وطبيب القلب الذي يعالج النساء.. يستطيع ان يستعين بمساعدة انثى للكثير من الاجراءات التي فيها تماس مع المريضة.. فهنا يعدل من بيئة عمله.. وبالتالي لا يعتذر عن معالجة الاناث.. (والعكس صحيح بين الجنسين)..
والكثير الكثير من الاعمال التي تقتضي التعامل مع الاخرين كالحوارات والاستفسارات.. يمكن ان تتم عبر الهاتف.. او من خلال البريد الإلكتروني.. او الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. ولا ضرورة للحضور الشخصي والجسدي والحديث المباشر..
كم اعجبني ذلك المذيع في احدى القنوات العربية الموجودة في لندن.. حين التقيته هناك.. وسألته عن سر نجاح برنامجه.. فقال لي.. انا ناجح في برنامجي.. لانه لا يحدني مكان ولا زمان ولا جنس ولا عرق.. فانا التقي ضيوفي من شتى بقاع الارض.. ولا حاجة لان احضرهم الى لندن.. ولو انني عملت كما يعمل غيري من احضارهم الى مراكز التصوير.. لشققت عليهم.. ولتكلفت محطتي الكثير من الاموال جراء الاستضافات.. ناهيك عن الوقت الذي يحتاجونه للمجيء والمغادرة.. ومدة الحلقة لا تتجاوز الساعة..
ولتم تحديدي ببعض الضيوف جراء اجراءات القدوم والمغادرة.. وتصاريح الدخول الى مركز المحطة..
ولاعتذر مني الكثير ممن لا يرغبون بالظهور المباشر على الشاشات.. او يتحرجون من الجلوس المباشر معي..
من هذه الامثلة استطيع الرد على كل من يقيد نفسه بكلمة طبيعة العمل هي هكذا.. بقولي له اسمحلي بأن اواجهك بالحقيقة.. فانت مَن تريد ان تكون هكذا.. وانت من تسعى لان تبقى بيئة العمل هكذا.. وليست طبيعة العمل.. فانت مقيد بطبيعة العمل.. ولست مقيد ببيئة العمل التي يمكن تعديلها ومواءمتها لتحقيق الهدف من ذلك العمل.. ومن ثم الحصول على اعلى النتائج.. والتي قد تحقق لك النجاح الباهر غير الذي تتوقعه بتقليدك لمن سبقوك..
ابو الليث..