الأسطوري والعجائبي في رواية "هاء، وأسفار عشتار" للدكتور الجزائري عز الدين الجلاوجي


قراءة بديعة النعيمي

في رواية هاء ،وأسفار عشتار يقدم لنا الكاتب فصلين مكثفين بعنوان أسفار التيه وأسفار المسخ مع تداخل لزمن الأحداث بين ماضي البطل وحاضره وما بين أماكن أحداث الرواية وأسطرة بعض الشخصيات وعجائبية الأشياء تنضج حبكة الرواية.

ومن العتبة الأولى اسم الرواية نجد حرف الهاء الذي نجد أنه يعبر عن من رفع نفسه وسما بها للدلالة على شخصية البطل الرافض منذ البداية لما يقبله الآخرون من بني جنسه ثم نلاحظ الفاصلة التي تلي الهاء لنقف وجها لوجه أمام أسفار عشتار الأسطورة الخرافية والتي زعمت بعض الحضارات بهتانا بأنها آلهة الحب والجمال ولها أسماء عديدة لدى الحضارات القديمة.

كلنا يعلم بأن التاريخ العربي حافل بالأساطير الخرافية التي تعد أحد روافد الإبداع الأدبي وخاصة مجال الإبداع الروائي والسبب في ذلك أن الأسطورة مرتبطة بالقص والحكي وقد حرص بعض الكتاب على إضفاء الطبيعة الأسطورية على رواياتهم من خلال أسطرة الشخصيات ،المكان، واللغة وتوظيفها للتعبير عن مواقفهم وتقديم صرخة احتجاجية إزاء قضايا معينة يطرحها الواقع وتمريرها بعيدا عن سلطة الرقيب. أما العجائبي فمن المعلوم بأنه وصف حدث أو أمر يفوق العقل ويقوده إلى الدهشة والحيرة لعدم تعوده وألفته له.
وهذا ما قام به عز الدين الجلاوجي في روايته حيث نجح في بناء عالم متخيل أقرب للعجائبي الأسطوري حاكاه وفق قالب روائي حديث وقام بشحن سرديته في عدة مواقع منها بفضاءات سحرية مسكونة بالخارق والعجيب وأطلق تمرد أبطاله على الواقع وحلمهم بالتحرر من العبودية.

يطل الدكتور الجلاوجي على سفري روايته من نافذة تحمل حب البطل لحبيبته التي أسماها طيلة صفحات العمل بطفلته المدللة وهي صديقة طفولته التي رافقته رحلته المدرسية حتى الجامعة برغم رفضها لطريقته بالحب.

 يرسل لنا الكاتب من خلال البطل بمروره بمراحل تحول حياتية حاسمة وهي بمثابة طقوس عبور من وعي محدد إلى وعي جديد من خلال ص6 حيث يقول البطل ( نتلاحم حتى نصير جسدا واحدا ونذوب في طقوس الحب والوجد) وفعل الجنس هذا يشير إلى مرحلة التحول التي أتينا على ذكرها. ويتضح هذا التحول أيضا من خلال مخاطبته لها ص7 (هلمي هلمي وقد أزمعت على السفر الطويل........ثم نكتب معا أسفار التيهان في شعاب الأسئلة والحيرة) وكلمة أسفار تشير إلى ما يسمى بالكتاب المقدس المزعوم والتيهان إلى الغياب عن هذا الوجود وهي فلسفة من يريد الابتعاد فتتيه فيه الطرقات وهنا نستنتج بأن البطل قد وصل إلى مرحلة جديدة من الوعي لذلك أراد أن يتوه ويبتعد عن المجتمع وهو طقس من طقوس العبور.

-أسفار التيه.

في غرفة السجن حيث يأخذ استدارة عكسية في الزمن فيبدأ من نهاية رحلته ثم يعود بنا إلى بدايتها حيث يقول السارد على لسان البطل بأنه قضى خمس سنوات وتجاوز عمر الستة والعشرين شتاء. وهنا لم يقل ربيعا كما هي العادة بل شتاء ليوصل لنا رسالة مضمونها برودة سنوات عمره ويأسه من الحياة. فالحياة في الشتاء تتوقف مؤقتا عند بعض الكائنات الحية فالنسغ يتوقف عن الجريان في النباتات وتلجأ بعض الحيوانات إلى سبات شتوي وهو بمثابة موت مؤقت وهو يموت خمس موتات تضاف إلى إحدى وعشرين لتصبح ستة وعشرين كانت كأنها قرن. وهنا تأتيه الابتسامة لتنتشله إلى الحياة حيث ذكرياته مع جده مصباح بعد أن تردد صدى صوته في أعماقه وهو يقول ص11 (ليس الحرية أن تخرج من العبودية ،الحرية أن تخرج منك العبودية)
ومن هنا نكتشف اتجاهات البطل وقناعاته التي لا تشبه قناعات من هم حوله فمنذ طفولته كان يرفض فعل ما لا يقتنع به فلا يفرض عليه شيء لا يريده وقد استقى هذه القناعات من جده مصباح الذي كان منزويا عن البشر مبتعدا عنهم وملتصقا بالطبيعة لقناعته بأنها الوحيدة التي تهبه الحرية.تنمو هذه القناعة فيدخل الجامعة مع طفلته المدللة وهناك وفي أول محاضرة له يتمرد على فكرة الأستاذ على العمل وأنه عبودية الإنسان لأخيه الإنسان ،يطرده الأستاذ.
 كان بطل الجلاوجي ينظر لكثير من الأشياء على أنها عبودية فحتى الكتب كان بعد أن يقرأها يستوعبها ثم يقدم على التخلص مما قرأ لأنها من وجهة نظره طريقا آخر للعبودية ويمتدح الطبيعة التي تعلمنا أضعاف ما تعلمنا إياه الكتب. المساحيق التي تصبغ طفلته المدللة بها وجهها هي أيضا نوع من العبودية لأنها تزيف الحقيقة.حتى الحب عنده عبودية لذلك كان حبه لطفلته مختلفا عن طريقتها.

وتتطور أحداث الرواية ليصدر البطل كتابا بعنوان "الإنسان الحر" يركز به على أشكال العبودية. يودي به في النهاية إلى السجن ومعاناته هناك ثم الخروج منه مع قناعاته بأنه سوف يخرج من سجن ألفه وتعود عليه إلى سجن أعقد هو سجن الفراغ.
 تنتظره طفلته أمام بوابة السجن وقد تغير كل شيء فالعمارات الشاهقة اغتصبت الأرض وسجنت ضوء الشمس عنه وقمعت حريتها.

-أسفار المسخ

يتحدث في هذا السفر عن لقائه بعشتار ومسخها له على شكل ذئب ليشعر بعد ذلك بأنه تحرر من البشر.
يلجأ للعيش بين الذئاب وهناك يرى العبودية وقد تمثلت بالزعيم الذي يتحكم بهم فيأتمرون بأوامره فيقرر أن يغادرهم ليلتقي بعشتار لكنه يقتنع بأنه من غير جلجامش لن يقدر على مسخها والخلاص منها. 
نلاحظ هنا بأن الدكتور الجلاوجي قد أسطر شخصية البطل الذي تحول إلى ذئب لا لضعف بشخصيته بل لأن هذا التحول عجائبي وما فوق الطبيعة فهذه الشخصية لم ترضى بما رضي به الآخرون من عبودية   وهذا إنما يأتي من منطلق عمق رؤية الشخصية لذلك تلوذ بالابتعاد عن كل ما يربطها بعالم البشر.

ونجده في ص12 يلجأ إلى إعطاء صفة المط الجسدي والمرونة للبطل  وهي صفة غريبة عجائبية تجاوزت الواقع ليعبر من خلالها إلى توق البطل للحرية والتمرد على الطبيعة لأن الجسد القابل للمط قابل لقطع المسافات وتجاوز أسوار السجن  ( أخذ جسده يتلوى كالمخدر ،وراحوا يمططون جسده.بعضهم راح يمططه فتستطيل أطرافه بشكل عجيب حتى تبلغ سور السجن من جهتيه وآخرون يشدون أرجله.....حتى تجاوز أسوار السجن)  
كما خرج الكاتب عن المألوف من خلال ما أخبر به البطل من تلبس روح الجد مصباح يوم موته القط الذي وجده أمام باب البيت وفي اللحظة التي مات بها القط والذي أسماه أيضا مصباح تلبست روحه العنكبوت الذي أحضره معه من السجن وهذا شيء لا يحصل في الحقيقة إنما أراد منه الكاتب إيصال رسالة معينة للمتلقي ربما يلمح بها إلى العبودية أيضا.

وحتى حكايات الجد مصباح كانت عن السندباد الذي كان يرى به النموذج الأمثل في إدراك كنه الحرية التي مارسها تمردا على رق الكائنات وقطعا لجميع العلاقات.

في ص97 ( من بين طيات الغيوم أشرق 
نور وتجلت أنثى فاتنة.......حملتني كرضيع ضمتني إلى صدرها الدافئ) وهنا يخبرنا بأنها عشتار التي تمتلك الرجال بأنوثتها بعد أن توقعهم بحبائلها وهنا يجسد العبودية بتلك الأسطورة عشتار وقد وظفها لإيصال تلك الصرخة في وجه البشر.
وفي ص112 يقول(لقد تحولت) ويلجأ هنا إلى أسطورة لوكيوس حين يتحول إلى حمار على يد حبيبته نوتيس والحمار هنا يرمز إلى العبودية.

نلاحظ أن الدكتور الجلاوجي طيلة صفحات روايته لا يفتأ يذكرنا ويصرخ عن طريق بطله مناديا بتحرير البشر من العبودية متسخدما في كل مرة أسطورة وقد أبدع في مزج هذه الأساطير الخرافية والواقع المرير.

وأخيرا نستطيع أن نقول بأن رواية هاء،وأسفار عشتار أشبه بسفينة تمخر عباب بحار من الأساطير.