احمد سلامة يكتب: جنة الروح، محبس البحرين، الضفة الثالثة
التطور الطبيعي لأي صحفي أن يبدأ مندوباً فمحرراً فسكرتير تحرير فمدير تحرير فرئيس تحرير. وإن توفرت لديه مَلَكَة الكتابة يفترض بعد خمس سنوات أن يباشر الكتابة المحلية أو السياسية أو الاجتماعية ومن ثم أن يُصدر كتابه بعد عشر سنوات، ثم يحلم بامتلاك مطبوعة وبعدها قد يتعثر ويعود كاتبا.
ما قلته ليس قانونا بل هو من تصورات المهنة لمن يعترفون أن الصحافة مهنة وليست مكاناً يحوي كل من يرغب الانتساب إليه. لكن، ثمة خط آخر قد يمد فيه الصحافي لسانه فيسترطب السياسة ويقفز إليها وعبرها إلى موقع ما، وهي تجربة لم يثبت جدواها في كل الميادين.
فالمرحوم محمد حسنين هيكل قادته تجربة القفز إلى السجن، وجورج قرداحي غزغزت القفزة روحه بالألم، ومصطفى أمين فقد كل بريقه، وكاتب هذه السطور كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينكب وتصادر حريته، لولا رحمة الله ومساندة حاسمة من الملك عبدالله.
السؤال إذاً: هل القفز إلى محراب السياسة مجدي للكاتب؟! بكل أمانة ونزاهة وتجرد، أعتقد أن من قال (الحجر مطرحه قنطار) فيه حكمة بليغة. فرغم فوائد القفز للسياسة، للكاتب خاصة إذ يكسب مهارات ويطلع على معلومات، لكن أكثر ما في التجربة (بؤساً) هو أن السياسي يبقى على ارتيابه من أهل القلم ولا يثق بهم، ولذا فالكاتب يعيش في غربة.
على أية حال، كُتب علي أو اخترت اِتمام الخمسة عشر عاما في الصحافة، وعبرت شطها من مندوب حتى مدير تحرير (الشؤون المحلية)، وكاتب أسبوعي بلغتُ زاوية "سبعة أيام" التي كانت تضم مقالتي مطلع كل سبت، ثم خالد محادين فبدر عبدالحق فخالد الكركي، ومحمد ناجي عمايرة وعبد الرحيم ملحس وزيد حمزة. كان اسمها السبعة الطيبة، والتسمية للمرحوم محمود الكايد اعتقد وهو صاحب القرار دون غيره في تصعيد الكاتب إلى الصفحة الأخيرة في "الرأي".
وشاءت الأقدار أن انتقل إلى الديوان الملكي الهاشمي العامر قبل أن أبلغ رئاسة التحرير. وللتاريخ، فإنني لم أسع الرواح للمقر السامي بل هي الظروف التي جعلت من فشل تجربة صحيفة "النهضة" المخرج بالتشرف في الذهاب إلى هناك. وحكاية صحيفة "النهضة تلك قصة أخرى (على حد تعبير الزميل باسم سكجها)، وربما أن أعرض كل مأساتها في كتاب قادم مخصص لتاريخ المهنة؛ قلت ربّما!
كان الداعم والمحرك لفكرة الدفع بي نحو أن أصير عضوا في الحاشية الملكية النبيلة هي صاحبة الإمارة والطيب ستّي بسمة بنت طلال حفظ الله لها عزّ أرومتها، وقد حصل. ورحت إلى بلاط صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، الذي كان مكتبه بلاطا هاشميا يضم كل أنواع البشر (كمال صليبي وعدنان البخيت، وعباس كاليدار وميشيل حمارنة، وعبد الله كنعان وطلال عريقات، وهاني الملقي وأحمد منكو، وسيف حابس المجالي وسمير زيد الرفاعي. وكان معالي ناصر جودة قد غادر إلى لندن مديرا لمركز الإعلام الأردني هناك، لكن ظلاله كصهر وكلاعب ماهر كانت حاضرة في كل أصداء الفناء).
كان إعلام الأمير الحسن بلا هوية محددة، وكانت تُسند مهماته إلحاقا بأي راغب في المكتب إلى أن انضممت إلى ذلك المكان البهيّ، وباشرت حفر خندق للإعلام وسط تلك الخنادق العتيدة! الله والمنصفون ممن عاشوا التجربة يتذكرون الجهد وصدق العزم ودعم سموه لبلورة هوية جديدة لإعلام ولي العهد آنذاك.
ربما أن من عاشر حقبة التسعينيات يقول ما بالي نسيت (عون الخصاونة)؟! والحق، أنني لم أنس، وبكل الحياء والأدب أقول: عون لا يجوز وضعه معنا في خانة واحدة. عون كان شيئا آخر وكبرلية آخرى وحالة ثقافية تختلف، وفيه ونس يخلو من شطط مؤامرات الدواوين. عون بريء حد الطهارة.
المهم، حين عبرت الجسر إلى لندن عام ١٩٩٦ وبعد مرور أربع سنوات كان هناك اعتراف لا لبس فيه لشراكة الإعلام في عمليات المرحلة. مثال ذلك أول لقاء جمع المرحوم سيدنا في (دارة الحسين في ضاحية آسكوت) جنوب غرب لندن مع نتنياهو (زعيم حزب الليكود آنذاك). وقد نظم حضوره علي شكري، واللواء محمد خير الشياب، وسمير الرفاعي وكاتب هذه السطور؛ بل إن من اصطحبه للقاء كان سمير الرفاعي ومحمد خير الشياب وأنا. ذكرت هذا المثال للتأكيد على أهمية الإعلام في العمل السياسي، رغم أنه من أسوأ لحظات العمر أن ترى نتنياهو الذي يمثل أكبر فضيحة لصورة اليهودي وأكثر تشويه لليهودية في التاريخ، ومع ذلك كنّا هناك بحكم المهنة والمسؤولية.
كل هذه المقدمة كتبتها لأقول كان منطقيا أن تستنتج أن الإعلامي يبقى خارج الملعب بضغط من لا يؤمنون بالإعلام كشريك. وهذه القوى كثيرة داخل بنية دولتنا على أية حالّ!
خرجت بالتقاعد عام ٢٠٠١ لإكمال الحلقة الثالثة من "الرأي" والقفزة للديوان العامر
عودا إلى الصحافة. وأنا من حنّ إليها وليس من أحد أخرجني من المقر السامي. ومع نفر أربعة (عبدالله العتوم، وزياد الخصاونة ومحمد الخطايبة، وأنا رابعهم ولدت فكرة "الهلال" الصحيفة الأسبوعية). كان صاحب الفكرة محمد الخطايبة، وكبرت حتى أضحت حقيقة.
حين زمَّني الغالي علي الفزاع وسط تكالب سافر من متنفذين وقتذاك للحيلولة دون صدور الصحيفة؛ زمني حينها الخلّ الوفي أبو هشام لعند الملك الجديد عبدالله ابن الحسين، سابع العبادلة الهاشميين وثاني الملوك الأردنيين، في بيت البركة سرا خالدا من وراء ظهور كل نجوم المرحلة الذين ظنوا بأنفسهم أنهم يمتلكون الأرض وما عليها. أخذت كل وقتي مع جلالته واسترجعنا الصفاء المطلق بين الملك والتابع وولدت "الهلال".
وصمدت "الهلال" ثماني سنوات تقريبا بدعم لا يلين وبعداء متوارث من الحكومات وغيرها، ووصلنا إلى المفترق من جديد في تموز ٢٠٠٨، وكان الرأي في حينه أن أغادر البلاد.
كان الجو متداخلا بجنون لم يحدث مثيلا له من قبل ولا من بعد. ولمّا كان مطلوبا من الإعلام حسم معركة الأمني والسياسي وقتذاك قررتُ الانحياز للصمت والنأي بالنفس وبـ "الهلال" كي لا نكون وقودا لتلك المعركة التي سميت في أدب المرحلة "معركة الأفران". ولاحقا سأعود لقصة "فرن" (أو بالأحرى ف.ر.ن) كلٍّ من قادة تلك المرحلة. ورغم كل إغراءات سفير النوايا الحسنة ووعيده لم يحرك بي شعرة واحدة لأنني رأيت في المعركة غبرة شخصية ولا روائح للوطن تظللها وانسحبت وغادرت في غضون شهر إلى مملكة الحب إلى مملكة الونس والطيب في البحرين.
كان التوقع أن أقيم هناك ثلاثة إلى خمسة أشهر لأن معركة الأقطاب كانت في نهايتها، لكني مكثت أحد عشر سنة، وكانت الشمس فيها ملك يدي والقمر أتامل به كل مطلع، وأدعو للملك عبدالله وأشكر ربي على هذه الخاتمة.
كنت أعدُّ حفلا لـ آل سلامة بمناسبة زواج اِبني رفعت في مزرعة الحبيب والمحترم محمد القواسمي (أبو حمد) صهر ولدي أسامة، في مزرعته القريبة من عمّان وطريق المطار. رنّ الموبايل مرات ثلاث دون رقم فقال لي أبو حمد (جاوب بلكي فيه رزقة بالتلفون)، اِنصعت ورددت. كان على الجانب الآخر أحلى أقدار حياتي. قال بهدوء ورقيّ لا انتهاء منه (معي الأستاذ أحمد سلامة؟)، أجبت بوقار (نعم سيدي). أكمل (معك خليفة بن دعيج آل خليفة رئيس ديوان سمو ولي عهد البحرين)، رحبت به، وقال لي (تقدر تكون عندنا غدا أستاذ أحمد؟ طويل العمر حابب يشوفك قبل ما يسافر عاليابان). ابتسمت قلت له (والله يا معالي الشيخ عرس اِبني البكر عقبال لأولادك غدا، بس بعد الاثنين أتشرف)، اختتم (الأستاذ عصام الجاسم رئيس المراسم رح يرتب معك نشوفك عندنا قريبا).
كان من أحلى اتصالات ثلاثة في حياتي، ولم أكن أدري أن هذا الشيخ الذي قضيت في كنفه وفي معيته ١١ سنة سيكون أجمل قدر في الحياة. تخيل أن تعمل مع إنسان في ظروف ليست سهلة فبعد سنتين دخلنا على صورة من صور الحرب الأهلية في فتنة الربيع العربي، ولم اختلف معه بحرف جرّ ولم أسمع منه كلمة مؤذية ولقد كان نعم الرفيق ونعم السند. الأصل الأصل الأصل يؤنس الوحشة في الطريق.
في أيلول 2008 غادرت إلى البحرين، وكانت قصة ليست في خيالي. ورغم أنني زرتها مرتين مع الأمير الحسن وأنا أعمل في معيته، وخرجت عن مألوف طبعي ومدحت المرحوم الشيخ عيسى أمير البلاد وقتذاك ولم أكن فعلتها قبلا أن أكتب عن حاكم غير الحسين لكن تزامنت زيارتنا للبحرين عقب مقتل رابين عام 1995 وقد كنا هناك للعزاء واستغربت اضطراب شمعون بيريز وقلقه وبعدها رأيت في قهوة الشيخ عيسى وطريقة ضيافته ثباتا ودواما ما دفعني للكتابة مقارنة بين المشهدين وعن نظرية التحكم بالمكان.
في 2008، لما دخلت إلى صالة بوابة المطار كان شاب من مراسم سمو ولي عهد البحرين بانتظاري (طارق التقي) الذي أضحى بمعزة أحد أولادي على مدار دوام البقاء في البحرين وبعدها، لأننا صرنا أسرة لا ننقطع عن بعض.
البحرين.. تجربة الخير وتجربة الحب وتجربة عدم الأذى، تصفي النفس وتطهر القلب، وطن يخلو من الزوامير، وطن أحلى مفردات لغته (عليك بالعافية).
حين طلبني للإياب أحد أصدقاء رحلة العمر الأردني، وكان ذو سطوة ونفوذ ولقطني وأنا عائد من اعتكافي في الأزهر نصف عام، واتفقنا على أن أعود فالوطن بحاجة إلي، ونسي الوطن حاجته بعد أن استأذنت البحرين ونسي صديقي الاعتذار مني بل أرسل لي مع الأخ الغالي خليل عطية (ما في نصيب).
أعود للبحرين، حين اِستأذنت معالي رئيس الديوان بالرواح لعمّان رفض وقاطعني. وطلبت الاستئذان من سمو ولي عهد البحرين الأمير المثقف والنبيل سلمان بن حمد. جالسته مستئذنا، فبادر بسؤالي (حد زعلك أحمد؟! ترى هذا الديوان ديوانك). قلت له (يا سيدي، حاشى البحرين تزعل أحد. بس متطلبات العمر والصحة والبلد. يعني سموك عارف). سألني عن الوظيفة التي سأحصل عليها، قلت له لا تعنيني الوظيفة ما يعنيني أنني حننت لعمان وجنونها. قبل أن أتركه قال لي (أحمد، دوما مكتبك هون ومفتاحه بجيبتك. أي وقت بتغير رأيك إنت واحد منا وأخونا وما قصرت في البحرين).
تخيَّل، كانت أول مرة أظفر بوداع نبيل. ولا أقارن، فالوطن غير قابل للمقارنة مع آخر حتى لو كان الآخر ضفة للقلب ثالثة مثل البحرين.
البحرين ذقت فيها كامل طعم السعادة والرضا والكفاية الحياتية وكل خير وأكثر ما يسعدني فيها أن ولدي الأصغر قد صار فيها أبا لابن وابنة ومضى عليه فيها الآن ما يقارب الثلاثة عشر عاما. ولقد غادرتها وأنا أحمل أكرم هدية منها، رسالة خاصة من سمو ولي عهد البحرين لخصت حروفها قصتي مع البحرين.
وعدت لعمّان وخاب الظنّ بالوعود، وأفرحني ذلك واِنغمست بضراوة في مشروع زراعي بالأغوار لأتعرف عن قرب على مصائب وأتعاب وأحزان المزارع الأردني.
الأردن أجمل الأوطان حتى وهي تلسعك بسياطها، فمرّها بطعم العسل.