الردع النووي الروسي والاتفاق النووي الإيراني


د. حازم الراوي
في خضم الصراع المسلح الدائر حاليا في أوكرانيا، يوجه الاعلام العالمي عيون وآذان البشر الى هناك دون إعطاء مساحة او فسحة ولو يسيرة الى ملفات العالم الشائكة الأخرى. ويعتبر هذا الامر بالطبع من الأمور المسلم بها، فالصراع المسلح الحالي ليس ككل الصراعات الأخرى. فروسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي تسعى منذ ان تربع بوتين على السلطة فيها عام 2000، الى إعادة مجد الإمبراطورية السوفياتية، والارتقاء الى مستوى القطب الدولي الموازي، مثلما تسعى الولايات المتحدة الامريكية الى البقاء متربعة على عرش القطبية الدولية الواحدة. هذا على المستوى الدولي، أما على المستوى الإقليمي فان إيران تسعى لإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية من خلال مشروعها القومي المرتكز على مبدأ تصدير الثورة، مثلما تسعى إسرائيل لمد نفوذها في الشرق الأوسط وفقا لمشروعها المرتكز على مبدأ (حدودك يا إسرائيل من الفرات الى النيل).
وإذا ما نظرنا الى ما يجري في أوكرانيا، وتسارع الاحداث وامتداد تداعياتها الأمنية والاقتصادية الى مستوى العالم بأسره، فتبرز العديد من الأسئلة والكثير من الاحتمالات، بل أحيانا يقف العقل من الاقتراب من صواب التحليل والتقدير بما يجري وبما سيجري.
ولكننا لا بد من ان نقف عند حدود المسلمات للوصول الى أكثر التوقعات قبولا. ولعل اهم هذه المسلمات يكمن في ان القوى العظمى لا تدخل الصر اع المسلح المباشر بينها، بل بالنيابة من خلال الحرب الباردة، والأدلة والامثلة على ذلك عديدة لا يسمح هذا المقال لتعدادها، بل نذكر على سبيل المثال الحرب في كوريا بين الاتحاد السوفياتي وحلف شمال الأطلسي بالنيابة بعدما أقدمت كوريا الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفياتي بغزو كوريا الجنوبية عام 1950، ثم قيام الولايات المتحدة بإصدار الأوامر الى قواتها بقيادة الجنرال ماك ارثر باستعادة السيطرة على النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية.
وعندما شعرت الصين بالتهديد، تدفق أكثر من مليون جندي من الصين الشيوعية إلى كوريا، مما اضطر ماك آرثر إلى التراجع إلى خط العرض 38، والذي قام بتقسيم كوريا الشمالية عن كوريا الجنوبية. وكان ماك ارثر قد طلب من الرئيس الأمريكي ترومان استخدام السلاح النووي، الا ان الأخير امتنع عن ذلك، واستمر القتال سجال حيث بقيت القوات الامريكية على خط الحدود الوهمي (خط العرض 38) حتى عام 1953 ولم يتوقف القتال حتى هدد الرئيس الأمريكي ايزنهاور باستخدام السلاح النووي ضمن نظرية الردع.
فالردع النووي يوجه على الاغلب لمنع الخصم من تنفيذ نواياه وليس للاستخدام. ومن هنا نجد ان الرئيس بوتين يصدر أوامره الى قوات الردع النووي لتكون بأعلى درجات الجاهزية، وذلك بعدما وقفت أمريكا وكافة دول الاتحاد الأوربي، بل حتى دول الحياد كالنمسا والسويد وسويسرا ضد روسيا، والانكى من ذلك قيامها بإرسال أسلحة الى أوكرانيا، بل حتى متطوعين لمقاتلة الجيش الروسي.
وبالرغم من هذا التهديد النووي العلني الا ان الطرف الأمريكي والاوربي متيقنين بان هذا التهديد لا يتعدى حدود الردع وليس الاستخدام، حيث ان الانتقال الى الحرب النووية يعني الاقتراب من التدمير الشامل لعموم الحياة على الكرة الأرضية بعدما اقتربت من الشفاء من جائحة كورونا. علما ان روسيا لوحدها تمتلك من الترسانة النووية ما تتفوق على كامل الترسانة الامريكية الفرنسية والبريطانية، سواء بالصواريخ العابرة للقارات او الطائرات الاستراتيجية او الغواصات النووية، حيث لديها ما يقارب الستة الاف رأس نووي. ولكنها بنفس الوقت تمتلك قوى اقتصادية تدميرية تضاهي السلاح النووي، وهي قابلة للاستخدام كالقمح والغاز والنفط والذي جعلته روسيا الورقة الأخيرة في الرد على العقوبات الامريكية والاوربية ضدها.
لذا ومن هذا المنطلق فان روسيا ستستمر في قتالها بأوكرانيا حتى تستسلم السلطة الحالية او يوافق حلف شمال الاطلسي بشروط روسيا في سحب قواتها الموجودة في دول البلطيق والدول الاوربية الأخرى التي كانت منضوية تحت حلف وارشو كبولندا ورومانيا وغيرها. وبذات الوقت ستستمر الحرب بالنيابة لأمد غير محدد، وسيتغير وجه العالم استراتيجيا بظهور الأقطاب الجديدة بعد تدحرج أمريكا من القطبية الواحدة.
اما إقليميا فالصراع الحالي بين إيران وإسرائيل يتفاقم ويتسارع، فإيران تفرض شروطا تعجيزية قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في مفاوضات الاتفاق النووي، واسرائيل تعتبر أي اتفاق نووي وبأي صيغة هو تهديد قومي وقوي لوجودها حيث ان أجهزة الموساد تيقنت بما لا يقبل الشك بان إيران ستحصل على السلاح النووي، وان رفع العقوبات عنها وإطلاق ارصدتها المالية المجمدة سيزيد من سرعة امتلاكها لهذا السلاح. وتعتقد إسرائيل بانه حتى ولو ضمنت ان إيران بوجوه ملاليها الحاليين لا يمكنهم استخدام السلاح النووي لعدم تيسر وسائط وآليات وتقنيات الاستخدام ، الا انها لا تضمن المستقبل القادم بعدما يبلغ الطفل الذي يصرخ اليوم بالموت لإسرائيل بلسانه، حيث سيتغير هذا الصراخ الى عقيدة راسخة بعد عشرين او ثلاثين عاما، ويستلم هذا الطفل الزر الخاص بالرؤوس النووية المركبة على صواريخ شهاب 3 او قيام 1 او غيرها من التي ستتطور بمرور تقادم الزمن، او حتى طائرات الدرون المسيرة التي يمكن آنذاك تفخيخها بقنابل نووية، والتي يصعب مجابهتها. فإسرائيل تحسب للزمن القادم في خطط بعيدة المدى، وليس بخطط خمسية او عشرية. كما لا يمكنها تحمل ضربة نووية بواقع الجغرافية والكثافة السكانية بالرغم من امتلاكها لترسانة نووية تفوق كل القدرات التسليحية في الشرق الأوسط.
ومن ناحية أخرى فان المفاعلات النووية الإيرانية هي بالأساس صممت ونفذت واستمرت بخبرات روسية، وان نمط الدعم التسليحي الروسي لإيران متواصل، كما ان التبادل التجاري بينهما يتصاعد. وان روسيا تقف مع إيران في مفاوضاتها مع خمسة زائد واحد حول الاتفاق النووي، بينما إسرائيل تقف بالضد من هذا الاتفاق وترتكز على الولايات المتحدة الامريكية، حليفتها الاستراتيجية الدائمة.
ولذا فان خضم الصراع المسلح الجاري حاليا في أوكرانيا والعقوبات المتتالية من الغرب ضد الدب الروسي سيلقي بظلاله على الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط بعد تمدد إيران وانتهاكها لكل المعايير الدولية والأخلاقية من خلال أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولعل اول الغيث هو صدور قرار مجلس الامن الدولي بحضر الأسلحة على ميليشيا الحوثي، الذراع الإيراني في اليمن. وكذلك على نتائج الاتفاق النووي.
كما انه بالتأكيد سيلقي بظلاله على الصراع الإيراني الإسرائيلي الذي كان صراعا إعلاميا في السابق ليتحول الى صراعا حقيقيا بعدما اقتربت مليشيات إيران من حدود فلسطين المحتلة، بل طوقتها، من حزب الله في لبنان ومن الحرس الثوري واذرعه في سوريا، وبعدما اقترب تخصيب اليورانيوم من إمكانية صنع السلاح النووي.
فهل سيستجيب البيت الأبيض للضغط الإسرائيلي من إيقاف السير باتجاه توقيع الاتفاق النووي بالشروط الإيرانية وفقا للمتغير الجديد؟
وهل ستشهد المنطقة حربا عسكرية إذا ما زادت إسرائيل من نشاطاتها الجوية والاستخبارية والسيبرالية ضد المواقع الإيرانية في سوريا، وفي الداخل الإيراني، او حتى القيام بضربة جوية بسلاح الجو او الطائرات المسيرة ضد مفاعل بوشهر ونطنز وغيرها؟