عيسى الحياري :التأثير السيبراني على السلم المجتمعي
التأثير السيبراني على السلم المجتمعي
عيسى عبدالرحيم الحياري
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بدأنا نسمع ونقرأ كثيراً عن مفهوم ومصطلح العولمة الذي تزامن مع مشكلة نهاية حقبة الألفية ومخاوف تلف الأجهزة الالكترونية والبرمجيات المتعلقة بها و تعتمد عليها كأنظمة للتشغيل و التي لم تكن قد حسبت حساب الزيادة في خانة ترقيم السنة في كتابتها ، تزامن ذلك عندما بدأنا بداية محو أميتنا التكنولوجية بأجهزة الحاسوب المتصلة بشبكة الانترنت البطيئة جداً و غرف الدردشة متعددة ومتنوعة المضمون ، قفزنا إلى الألفية و تجاوزنا معضلتها و تناقصت الكتابات حول مفهوم العولمة و التحذيرات من مخاوف الربط السيبراني عبر الشبكة العنكبوتية و ما قد ينجم من غزو فكري و الاثر المترتب عليه من انحلال اجتماعي وغزو ثقافي يعيث فساداً شيئاً فشيئاً حتى أصبحت العولمة أمر واقع بعد ثورة اجهزة الاتصالات و اللتي تلتها الأجهزة المحمولة المزودة بتقنية "السِّن الأزرق" (البلوتوث) التي كانت وسيلة نقل سريعة لتبادل المعلومات بين جميع الأجهزة و التي كانت في نفس الوقت وسيلة مضايقة عبر اقحام محيطها من الأجهزة الفعّالة للارتباط دون وسيلة حماية تكنولوجية آمنة .
و بالتزامن مع تحسين وتطوير التقنيات المزودة للاتصالات متعددة الأجيال دخلنا معها إلى عصر الأجهزة اللوحية الذكية التي حلت فيها مكان الهواتف ذات الأزرار و ما قد وصلنا إليه في العقد الأخير حيث بات المجتمع يعاني الأمرّين مع ازدياد و تفشّي قضايا عنف و قتل وأنواع جديدة من الاستقواء والابتزاز وغيرها وسببها الرئيسي الأثر السيبراني الناجم عن استعمال أدواتها منذ استيقاظنا وحتى قبل إغماض أعيننا لننام مستسلمين للنعاس بعد نفاذ طاقتنا للتفاعل و البحث عبر تلك الأدوات متعددة الاغراض .
في الوقت الذي اجتاحت فيه التطبيقات الفضاء الالكتروني فغدا أكثرها تحميلاً وتأثيراً و المتعلقة بالتواصل الاجتماعي و للاي نهجت المنافسة فيما بينها لزيادة عدد المستخدمين الفعّالين لديها و شرعت لتخفيف الشروط والأحكام لتصبح شيئاً فشيئاً تتضمن المحتوى الرديء الذي جذب وأصبح مقصداً للأعداد كبيرة من رواد و مستخدمي تلك التطبيقات، مع انعدام الضوابط تغير المزاج العام بعد أن أصبح معظم ما كان ممنوعاً متاحاً و مشروعاً ، فتم غزو البيوت الآمنة والمحصنة بالموروثات الدينية والقافية و ما عاد هنالك خصوصية و بدأت مرحلة التنازلات ، فأدق تفاصيل حياة كثير ممن يتنافسون أصبحت في السنوات الأخيرة الماضية متاحة للجميع في ظل منافسة مقصودة بينهم أو عن غير قصد واستفزاز للمتابعين غير آبهين للفروقات الثقافية والاقتصادية و ما قد ينجم نفسياً و يؤثِّر عليهم مجتمعياً ، من منا لم يلحظ مؤخراً في البلدان العربية أنواع جديدة من الجرائم و التفكك الأسري و غياب مفهوم العائلة الواحدة ، ما كان احد يعلم خبراً عن احد شيئاً و كانت اللقاءات المباشرة هي وسيلة لنقل الخبر والمعلومة ، اليوم بسحبة اصبع وعدة نقرات على شاشة هاتفك الذكي تستطيع معرفة و متابعة من شئت ممن يستخدمون تلك التطبيقات والذين يشكلون في بلدننا أغلبية محيط و مجتمع كل منا .
لم يكن سابقاً من السهل أن يتابع الفقير حياة المجتمع المخملي و الدخول في مقارنات يومية تؤدي إلى الاحباط و محاولة مواكبتهم في سلوكياتهم و عاداتهم ، و لم يكن من السهل نقد المغنيين والفنانين ولا حتى السياسيين بشكل مباشر ، تطور النقد إلى انتقاد ثم إلى مفهوم "التنمر" الذي أصبحنا نعاني منه جميعاً فما عاد هناك منا من يحكم السيطرة على نوعية التعليقات لديه إلا بإحكام ضوابط الخصوصية و التي تقيّد أعداد المتفاعلين .
بعودة بسيطة بذاكرتنا إلى ثورات ما يسمى الربيع العربي و التي كان الاعتماد المباشر فيها للحشد و التعبئة على القنوات الفضائية جنباً إلى جنب مع الوسائل السيبرانية التي فقدت كثير من الدول السيطرة عليها رغم قطعها بشكل كامل لكن اتضح أنه لا سيطرة و لا ضبط يمكنه كبح جماح الاتصال سلكياً كان أو لا سلكياً ، بحرياً كان أم عبر الاقمار الصناعية فدائماً هنالك سُبُل كثيرة لفتح آفاق التواصل و تدفق المعلومات .
و دعونا لا ننسى حالة الاحباط التي تلت الانهزامات والفشل عبر عقود طويلة و التي فتحت الباب على مصراعيه لنشر الفكر الراديكالي عبر الترويج له بامكانية المساهمة في تحقيق انتصارات لاحقة معتمدين على محتوى عالي الجودة من حيث الصوت والصورة المُنتجة والتي تحتوي كم كبير من التعبئة عدا عن المؤثرات المرافقة لها ، كذلك استخدام إحياء أساليب وأنواع غائبة منذ قرون عن مجتمعاتنا من التنكيل و سبُل الترويع مستقاة من عصور قديمة ، وفي بثها لم يكونوا بحاجة للاتصال المباشر فالاعتماد كان كما كشفت عنه حالات كثيرة سيبرانياً بحتاً عبر اتباع تعليمات محددة أو إختيار ما يمكن أن يزعزع الأمن الداخلي عبر استهداف مواقع ومنشآت حساسة أو حيوية لتحقيق حوادث مؤلمة لتكون حديث الساعة مجتمعياً وعالمياً عبر وسائل الإعلام .
الكم الهائل المتداول يومياً في غالبيته هو افرازات نفسية و ذو عبيء كبير يحتاج لأدوات تحليل سريعة للمتابعة و تشكل عبيء كبير جداً على الأجهزة الرقابية و التي يقع على عاتقها ضمان عدم حدوث كوارث كاختراق البيانات أو إدارة الأعمال غير الشرعية و الجرائم المنظمة والتي يكون أثرها وخيم على مؤسسات الدول سواء كانت خاصة أو حكومية مختلفة الأنشطة (أمني، إداري ، مالي ، تجاري …إلى آخره.) و أكبرها عبئاً التحقق و متابعة الاتصالات بين الأفراد بعضهم ببعض داخل و خارج الدول منتهكين فيها خصوصيتهم و متجاوزين للقوانين عدا عن المحاذير الأخلاقية الدينية و الأعراف الثقافية .
دعونا لا ننسى كذلك التأثير اليومي لاستعمال التقنيات المختلفة أوجدت عالم افتراضي موازي للفعلي لكن يترك أثر سلبي أكبر من الواقعي ، فمثلاً بنقرات بسيطة يمكن أن تجرح كرامة فرد أو تغتال شخصه أمام ملايين في بعض مواقع التواصل الاجتماعي ، و في مواقع أخرى قد تلفق مادة عبر استعمال برمجيات لإحداث وقيعة بين شخصين أو لهز الثقة بجهة معينة عبر هدم صورتها لديهم و نشر معلومات إمّا نصف صحيحة أو مغلوطة بهدف زعزعة الاستقرار و إحداث إرباك .
قبل فترة وجيزة كنت قد شاركت في جلسة نظمها "معهد السياسة و المجتمع" بحضور معالي الدكتور محمد أبو رمان و عدد من أعضاء المعهد و مهتمين لمناقشة كتاب للدكتورة ماري آيكن بعنوان "التأثير السيبراني:كيف يغير الانترنت سلوك البشر" و في خلاصة النقاش والذي كان ثرياً اتفقنا بأن الأثر كبير و خطير و أحدث تغييرات كثيرة و كبيرة في حياتنا اليومية و في محيطنا العربي و قد أُجبرنا كأفراد مجتمع بقصد أو دون قصد على تنازلات لم تكن في الحسبان في فترة زمنية قصيرة ، فقد أصبحنا نعتبر معظم ما كان مرفوضاً شيء اعتيادي و مقبول .
في ازدياد الاتكال على التقنيات المعتمدة على السيبرانية و اعتياد الانحراف و انتشار الادمان الناتج عنه بين صفوص مستخدميه عدا عن الاضطرابات و المشاكل الصحية الناجمة عن ذلك ، في النهاية راودني سؤال بـِ "هل من الممكن ضبط الفضاء السيبراني ليصبح دعامة و ركيزة يتكأ عليها للنهوض بالمجتمع بدلاً من أن يكون مقوضاً للسلم المجتمعي ؟!"