اغتيال فرج فودة لعنة ستظل موجودة
د. مهند العزة
السبت الماضي مر 30 عاماً على المناظرة الكبرى التي خاضها االمفكر الكبير الراحل فرج فودة في الثامن من كانون الثاني/ياناير 1992 في معرض القاهرة الدولي للكتاب والتي كانت سبباً في أن تمتد يد أمي آثم لم يعرف القراءة والكتابة لتزهق روحه الطاهرة بناءً على فتاوى وتحريض من أمراء الدم، فتطوع «عبد الشافي رمضان» عضو الجماعة الإسلامية الإرهابية؛ ليكون قاتل مأجور بثمن آجل مستحق القبض «يوم القيامة» كما أفتاه سفاحو الفكر مختطفو العقل والضمير.
جمعت المناظرة التي كان عنوانها: «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية» بين المفكر الدكتور فرج فودة والدكتور محمد خلف الله من جهة، حيث مثّلا الفريق المناصر للدولة المدنية، بينما ضم الطرف المقابل الشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي المرشد العام السابق لجماعة الأخوان المسلمين والدكتور محمد عمارة ليمثّلوا كتيبة الإعدام ضد المنادين بمدنية الدولة.
لم يخرج فرج فودة وخلف الله في طرحهما عمّا يتبنيانه في مؤلفاتهما من أفكار تميز بين وجوب احترام الدين وقدسيته وعدم جواز الزج به في معترك السياسة، ومن ثم ضرورة إقامة الدولة على أسس مدنية خالصة تحترم فيها الحقوق والحريات والأديان، وهو ما سبق واستفاض في شرحه الراحل فرج فودة في كتابه الشهير "الحقيقة الغائبة" الذي تبنى فيه منهج المقارنة واستقراء التاريخ لإثبات فشل فكرة الدولة الدينية، حيث تناول بالتأصيل والتحليل عالامات فارقة شكلتها ممارسات «غريبة عن أصل الدين» منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى نهاية الدولة العباسية ، وذلك من حيث تولي السلطة أو الاستيلاء عليها، وما كان يُتَخَذ من قرارات وما يؤتى من تصرفات ومسلكيات تحكمها بالكلية الاعتبارات السياسية السلطوية بعيداً عن الدين وأحكامه. في المقابل، كان طرح المناظرين من الطرف الآخر نمطياً تقليدياً لم يخرج عمّا ألفوا عليه وألفه المتابعون منهم؛ من ترديد للشعارات الفضفاضة والشخصنة والصراخ أحيانا، مع عدم مقارعة الحجة بالحجة والهروب من الإجابة على «الأسئلة الخازوقية» والاحتماء بفقاعة شعار الترهيب والاستئصال: «الإسلام هو الحل».
اعترف قاتل فرج فودة أمام وكيل النيابة العامة أنه ارتكب جريمته بنءاً على فتوى عميد الإرهاب مضلل الشباب؛ الشيخ عمر عبد الرحمن الذي هرب من «دار الإسلام إلى دار الكفر» في أمريكا لينعم فيها بالعدل والإنصاف، فما كان منه إلا أن كافأها بالتآمر عليها والمشاركة في تفجير مركز التجارة العالمي سنة 1993 في نيوورك الذي أودى بحياة 6 أبرياء وأصاب 1000 آخرين بجروح، فاعتقل وحوكم محاكمةً عادلةً أتيح له فيها الدفاع عن نفسه من خلال محاميه وبشخصه، ثم طالبت بعد فترة من سجنه منظمات المجتمع المدني الأمريكية «الكافرة» بإطلاق صراحه نظراً لما كان يعانيه من أمراض من بينها السكري والقلب، ليموت هناك بكرامة عام 2017.
لم يكن مفاجئاً صدور بيان من «جبهة علماء الأزهر» عقب المناظرة يكفّر فرج فودة، ولا نشر مقال تحريضي تفوح منه رائحة الدم كُتِبَ برمح الدكتور محمود مزروعة الذي كان يشغل في حينها رئيس قسم العقائد بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بعنوان: «المرتد فرج فودة نذر حياته لمحاربة الإسلام» نشرته جريدة «النور»، فهذه هي صناعة الموت التي يتوارثها القوم مجرماً عن مجرم ويتقربون بها إلى الله زلفى وزيفا. ما فاجأ بعض المتوسمين في الشر خيرا، كان شهادة العار التي أدلى بها متطوعاً الشيخ محمد الغزالي لمصلحة الدفاع عن القتلة أمام محكمة الجنايات، حيث كانت خلاصة شهادته التي استمرت لحوالي نصف ساعة؛ الحكم بكفر الضحية وتبرئة قاتليه من دمه، ولأن الشيخ «يحب الحق حتى في مقام سفك الدماء»، فقد أشار إلى أنه: «يمكن معاقبة الجناة على جريمة الافتءات على السلطة لتنفيذهم حد الردة بأيديهم، وليس على جناية القتل»! أما محمود مزروعة، فقد شهد أمام المحكمة مؤكداً أن فرج فودة «مرتد يستحق القتل وقتله واجب على من يستطيع القيام به من عامة المسلمين وهو في أعناقهم طالما لم تقم به الدولة»! وقبل وفاته ببضع سنوات، صرح مزروعة متفاخراً غير نادم في مقابلة صحفية أنه: «أفتى للجناة بجواز قيامهم بقتل فرج فودة دون أن يعلم هويتهم».
هذا الإجرام المُؤدلَج الممنهج يؤكد أن لا اعتدال ولا وسطية عند أتباع تيارات الإسلام السياسي، فها هو ذا الشيخ محمد الغزالي الذي يعتبره كثير من المغيبين أيقونة الاعتدال والتجديد؛ يشهد «بردة» الضحية ويغسل يد قتلتها من دمائها، ناعياً عليهم فقط: «أخذهم الحد بأيديهم»، مع استباقه شهادة العار هذه بتصريح يعكس ضيق الصدر وعدم القدرة على احتمال مجرد سماع الرأي المخالف ويؤكد التماهي التلقائي مع اتجاهات أساطين الإرهاب الفكري، حيث قال في ندوة عقدت في «نادي أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة» قبل مقتل فرج فودة بأيام: «الدكتور فودة والدكتور فؤاد زكريا (وهو أستاذ فلسفة ومفكر ومن دعاة العلمانية) يرددان ما يقوله أعداء الإسلام في الخارج، والله يهديهم، وإن ما هداهمش يخودهم»، وقد كان له ما أراد، فأخذت يد الغيلة روح فرج فودة «بصك غفران» من الشيخ وأخوانه من فحول الإرهاب الفكري.
كما هي سنّة الكون في الُظلّام أهل الظلام، ينتهي بهم المطاف ليشهدوا على أنفسهم وعلى صواب رأي خصومهم فيهم، حيث جسد الرئيس الراحل محمد مرسي هذه السنّة في أجلى صورها مبرهناً على صدق كل كلمة قالها فرج فودة عن جماعته وأخواتها وعن كارثية الدولة الدينية، حيث افتتح مرسي -الذي كان يفتقر للحنكة والحكمة السياسية- وعوده الرئاسية عقب توليه منصب رئيس جمهورية مصر العربية سنة 2012؛ بتعهده أن يسعى جاهداً لإطلاق صراح الإرهابي الدولي عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية وصاحب فتوى إهدار دم فرج فودة، ثم لم يكتفي بذلك، إذ أصدر في السنة نفسها عفواً رئاسياً عن الإرهابي أبي العلا عبد ربه، المحرض الرئيس والمدّبر والمخطط لعملية اغتيال فودة، فما لبث أبو العلا حتى ارتحل إلى سوريا منضماً إلى تنظيم داعش الإرهابي مقاتلاً في صفوفه متنعماً بالغنائم والإماء حتى لقي مصرعه هناك عام 2017.
لقد قتلوا فرج فودة ثم شربوا نخب دمه ثم ماتوا ليعيش فكره ويخلد ذكره، وتأبى لعنة جريمة اغتياله إلا أن تظل حاضرة وموجودة ، شاهدةً على أن هذه التيارات مهما تلونت وتحلونت فإنها خلٌّ أخو خردل ومرٌّ شقيق حنظل.