الدكتور أندرياس ريكيمر يكتب:الأزمة المناخية العالمية والحد الجديد للعدالة
الأزمة المناخية العالمية والحد الجديد للعدالة
الدكتور أندرياس ريكيمر*
ساهم العامان الماضيان في إدراك المجتمع الدولي أخيرًا لحقيقة أن التحديات والأزمات العالمية المعقدة لن تختفي بسهولة، وأن من المرجح أن تصبح هذه التحديات والأزمات القاعدة وليس الاستثناء في هذا القرن الحادي والعشرين الذي يموج بالاضطرابات. أولاً، من الواضح أن جائحة كوفيد-19 لم تنته بعد. وفي حين أن التوزيع العالمي للقاحات لا يزال متقطعًا، وهو ما يدلل على وجود امتيازات اقتصادية وسياسية بدلاً من تحقيق العدالة والمساواة في توزيع اللقاحات، تستمر المتحورات الجديدة للفيروس مثل متحور أوميكرون في الظهور، وهو ما يشير إلى أن أكبر أزمة صحية عالمية تظهر منذ قرن على الأقل سوف تستمر لفترة طويلة. وإنه لأمر مأساوي أن نرى أن هذه الطريقة قصيرة النظر وغير المسؤولة تجاه التوزيع العادل والمنصف للقاحات عالميًا أصبحت الآن سببًا جذريًا لحلقة لا نهائية على ما يبدو من ظهور الطفرات الفيروسية وانتشارها. وفي الواقع، تسمح السياسات التي تتبناها بعض البلدان للمتحورات الجديدة بالانتشار في الأماكن التي تكون فيها اللقاحات نادرة، ولكن سرعان ما ترتد آثارها إلى الدول التي تكتنز الجرعات وبراءات الاختراع على حدٍ سواء.
ثانيًا، يذكرنا التدهور السريع للوضع الصحي، والانهيار المذهل للوضع الراهن والنظام العام، والأزمة الإنسانية وأزمة حقوق الإنسان المستمرة في أفغانستان، بالضعف المتأصل وهشاشة النظام العالمي ومؤسساته. ولا تمثل أفغانستان سوى مثالاً واحدًا على حدوث تحول أساسي في الجغرافيا السياسية العالمية والإقليمية وتوازن القوى الذي أصبح موجودًا الآن في كل مكان. والنتيجة هي أن أمن الإنسان والعدالة يبدو أنهما أصبحا أكثر قابلية للضياع بشكل أكبر من ذي قبل. ثالثًا، أكد تقرير التقييم السادس للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ أن الأزمة المناخية العالمية ليست حقيقية ومؤثرة فحسب، بل من المؤكد أنها ستزداد، ربما بشكل كبير، وتصبح أكثر تدميرًا، وتعطيلاً، وفتكًا مما كان متوقعًا في الماضي.
وفي الوقت نفسه، عزَّز المؤتمر السادس والعشرين للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، الذي عقد في مدينة جلاسكو الاسكتلندية، من مشاعر الخوف المنتشرة على نطاق واسع من أنه قد بات من غير المحتمل على نحو متزايد الوصول إلى الهدف المحدد في اتفاقية باريس، وهو الحد من معدل ارتفاع درجة الحرارة في العالم وصولاً إلى 1.5 درجة مئوية فقط، وأن حتى مجرد تحقيق الهدف الاحتياطي المتمثل في الحد من معدل ارتفاع درجة الحرارة وصولاً إلى 2.0 درجة مئوية، لا يزال من غير الوارد تحقيقه، وهو ما يعني أن التهديدات التي لا يمكن تصورها مثل موجات الحرارة الهائلة، والفيضانات، والجفاف، والأعاصير، والعواصف الثلجية، وأزمات الغذاء، والمجاعات، والهجرة الجماعية، والصراعات العنيفة من المتوقع أن تتزايد خلال هذا القرن.
ولسوء الحظ، كانت أجندة المؤتمر في دورته السادسة والعشرين متشابهة ولم تتغير كثيرًا عن أجندة الدورات السابقة، حيث أجبرت الوفود المتهكمة من بعض البلدان الصناعية، بالإضافة إلى جماعات الضغط المؤيدة لاستخدام الوقود الأحفوري التي لا تعرف الرحمة، البلدان الفقيرة المتضررة بالفعل من تغير المناخ على تبني الوضع الدفاعي وفرضت تسوية متساهلة بعيدة كل البعد عن أن تكون كافية ومناسبة. وعلى الرغم من أن بعض خبراء التخفيف من الإجراءات، وهم عادةً ما يكونون من الخبراء البيض والذكور والغربيين، قد امتدحوا المؤتمر نظرًا لسعيه إلى الإبقاء على هدف الحد من معدل ارتفاع درجة الحرارة في العالم عند مستوى 1.5 درجة مئوية، فإن النقطة الأساسية في هذه القضية لا تتعلق بما هو ممكن افتراضيًا من الناحية الفنية، ولكن الأمر يتعلق كثيرًا بما تم إنجازه وما زال يُنجز للفقراء، والمهمشين، والمتخلفين عن ركب التنمية، والمحرومين، والأشخاص الذين يعيشون في مناطق نائية في هذا العالم. وتحمل عمليات مؤتمر الدول الأطراف في هذه الاتفاقية في الغالب معالم الليبرالية الحديثة والحكم الاستعماري الجديد. وإذا كنا ننظر بعين الاعتبار إلى الأشخاص الذين يعيشون في الدول الواقعة جنوب المحيط الهادئ، وفي أفريقيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وأماكن أخرى من العالم؛ فلماذا لم يتم الوفاء بالوعد المقدَّم في الدورة الخامسة عشرة من المؤتمر التي عقدت في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن خلال عام 2009 الذي أكد على ضرورة توفير 100 مليار دولار لدعم احتياجات التكيف مع ظاهرة تغير المناخ، وهو وعدٌ لم يتم تلبيته ولو حتى بنسبة 50%؟ ولماذا لا يزال أسوأ وأشهر المسببين لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم يرفضون دفع فلس واحد تعويضًا عن الخسائر والأضرار التي لحقت بالدول النامية التي يتحملون مسؤوليتها؟ وكيف تجرؤ الدول الغنية التي تصدر الانبعاثات الكربونية على رفض الالتزام بإحداث تخفيضات فورية وجذرية للانبعاثات مع إدراكها لأن أنانيتها ستقتل ملايين البشر، وتقضي على أنواع حية بأكملها، وتجعل قدرًا كبيرًا من هذا الكوكب غير صالح للسكن؟
هل ترون نمطًا محددًا؟ يمكن القول إن القاسم المشترك بين جهود التعامل مع فيروس كوفيد -19، وقضية حقوق الإنسان في أفغانستان، وسياسات التصدي لظاهرة تغير المناخ باعتبارها من الظواهر العالمية المهمة هو المزيج السام من قصر النظر، والأنانية، والقسوة التي تؤدي إلى التضحية بجهود التضامن الدولي، والعمل الجماعي، والقضية النبيلة المتمثلة في السعي لترسيخ المساواة والكرامة والعدالة في العلاقات الدولية من أجل تحقيق مكاسب وامتيازات قصيرة الأمد، والهيمنة على العالم. ولم تساهم الرأسمالية غير المنظمة إلى حد كبير التي استمرت لمدة أربعين عامًا، والعولمة الاقتصادية، والحكم الليبرالي الجديد في تعزيز روح ميثاق الأمم المتحدة وأهدافه. لقد دمرت هذه العوامل كوكبنا وأنظمته البيئية وموائله الطبيعية، وتركت البشرية في حالة من الصدمة والاضطراب والتفكك، وهي وضعية أقرب إلى ما وصفها لوثيان هوبز بحالة الطبيعة. وبالمناسبة، يضيف تغير المناخ إلى المخاطر والتهديدات العالمية الأخرى؛ حيث أن هذه المخاطر متداخلة وشاملة ومضاعفة. وتستمر الأمراض حيوانية المصدر، وبالتالي الجائحات والأوبئة، في الارتفاع أيضًا بسبب تغير المناخ، وارتفاع درجات الحرارة، وتغير معدلات هطول الأمطار والرطوبة، بالإضافة إلى تغير المناطق الأحيائية والموائل البشرية. وترجع أسباب الحروب مثل تلك التي وقعت في السودان واليمن وسوريا أيضًا إلى تغير المناخ، والتصحر، ونقص المياه، وقلة المحاصيل، والجوع، وهي أسباب تؤدي أيضًا إلى حدوث ظاهرة الهجرة القسرية كواحدة من أبرز الظواهر الجماعية، والقائمة تطول.
ولم يعد بإمكاننا ببساطة تحمل نهج العمل المعتاد، ولا حتى تحمل نهج تقدمي معتدل، ناهيك عن النهج الرجعي. ويتطلب هذا القرن الذي يعج بالأزمات المعقدة نوعًا جديدًا تمامًا من الإجراءات والاستجابة العالمية مختلفًا عن أي شيء قبله، حيث يتعرض السلام والأمن والازدهار وإقامة الدولة للخطر على الصعيد العالمي. وثمة حاجة إلى تبني أدوات قانونية واقتصادية وسياسية جديدة ومبتكرة وثورية، مقترنة بمظاهر التقدم التكنولوجي، والاستثمارات الأخلاقية والمستدامة، والحركات الاجتماعية، والتغيير السلوكي على نطاق واسع. وفي نهاية المطاف، تشكل الأجندة المناخية، ومعها العديد من جداول الأعمال الأخرى ذات الاهتمام العالمي، مسألة تتعلق بالعدالة العالمية والبقاء. ويجب تعديل التدابير المتبعة والأدوات المستخدمة لتحقيق سلامة ورفاهية الفقراء والمهمشين والمحرومين والمعوزين. وسوف يساهم صمود الضعفاء في تحديد مصير الجميع. وإذا كان الأمر كذلك، فسوف تستفيد البشرية، ومعها الأنواع الحية الأخرى، والأنظمة البيئية، والكوكب، بشكلٍ إجمالي. وإذا لم يحدث ذلك، فسوف يرتد هذا المركب السام من الجهل والأنانية السائدة في العصر الراهن ليشكل طفرةً قويةً تطارد العديد من الدول الغنية، تمامًا مثل متحور أوميكرون.
* يشغل الدكتور أندرياس ريكيمر منصب أستاذ بكلية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.