"الباعة المُتَجَوِلون".. والتخِفيف مِن حِدَّة الفَقر


*يلينا نيدوغينا 
 عَشرات من دول آسيا وإفريقيا، وإلى جانبهم أقطار عديدة في قارة أمريكا الجنوبية، تُشجع تجارة الشوارع، كونها واحدة من العوامل الإيجابية التي تزيح الكثير من الأحْمال عن كَوَاهِلُ الحكومات والمسؤولين الحكوميين، بخاصةٍ تلك التي لا تَجد أموالًا كافية لتوظيفها في استثمارات وتشغيلات سريعة للأيدي العاملة التي تضَخَّمَ عَديدها مع التراجع المَلحوظ للمشاريع الجديدة، وشَح التوظيفات المالية، لا سِيَّمَا في "عصر كورونا" وتحوراته.
 زُرت العديد من الدول بدعوات رسمية، ولهذا تمكَّنتُ من التعرّف عن كثب على نجاحاتها وجمالياتها والمصاعب التي تواجهها، ورأيت بأُم عيني كيف استطاعت عواصمها إيجاد الحلول للكثير من مشكلاتها، فقد كان المرافقون المُصَاحِبون لي صريحين إلى أقصى درجة في تناول أوضاع أوطانهم من مختلف الجوانب، ولم يَعمدوا للتغطية على سلبية ما، ولم يُضخِّموا الواقع ولا التمنيات.
 توليد المشاريع ليس بأمرٍ سَهل، والأصعب هو إدامتها والمحافَظَة على مُستخدِميها أصحاب مختلف التخصصات في مواقعهم. ولهذا، سَمَحت تلك الأقطار لِبَناتِها وأبنائِها استملاك "استثمارات متنقلة"، على شاكلة وسائط تَنَقُّل بسيطة، وعربات الأطعمة الجاهزة، وخدمات الوسائط المختلفة المُجديَة لأصحابها، ولهذا بَرَعَت في التخفيف من حِدَّة الفقر ونسبته بين ساكنيها، والأهم على الإطلاق هو أن أرباح مواطني تلك البلدان تصب في جيوبهم ولا تذهب إلى جهات ما وراء الحدود! هؤلاء الباعة البسطاء لا يُضْطرّون إلى دفع ضرائب كبيرة، إنِّما متواضعة تضمن لهم ولعائلاتهم الحياة الكريمة التي تتألق بجهودهم هم وبوعيهم وإخلاصهم للمهن التي اكتشفوها أو اخترعوها، فكان أن قدحوا أفكارهم ونجحوا في تحويل أدمغتهم؛ التي كانت سابقًا تتوق حصرًا للوظيفة والرواتب المُتدنيَّة والكسل؛ إلى آلات نشِطَة تعمل بلا توقف على خطوط إنتاج سِلعي لا راحة لهم فيها. هؤلاء الباعة يتَّسِمون بالذكاء في آلية توفير الأطعمة الطيِّبة والبضائع والخدمات الأكثر جذبًا للمستهلكين ولأُلئِك المشترين من كِبار السن، والأطفال والشباب، وحتى أجدادنا "الختيارية" وجدَّاتنا "الختيارات".
 الحكومات في تلك الدول تراقب هؤلاء أصحاب تلك المهن عَن كَثب، لكنها لا تتدخل سوى في حالات محددة وخطرة تتصل بالأمن الغذائي والمائي، أو لضرورات المُحَافَظة على نظافة الموقع والبائع والمشتري والمواد المَعروضَة للبيع والتسويق في أمكنة محددة.  
 إن نجاح هذه المشاريع قد وفّر أجواءً مُتجددة من الثقة والتعاون اللامحدود بين الطرفين الرئيسيين للمعادلة: الناس عمومًا بعضهم مع بعض، وبينهم وبين حكوماتهم وأجهزتها المختلفة، وليس فقط بين الباعة وأصحاب القرار. المسؤولون قد كَسبوا في هذه الأجواء كثيرًا في المجالين المادي والمعنوي، بل والسياسي والأمني أيضًا، فقد خَفَتَ منسوب الحُنق على الدول وأجهزتها الرسمية، إذ تراجعت الانتقادات الموجهة صوبها إلى أدنى الدرجات، فكسبت الدول ثقة شرائح وطبقات عديدة تمكَنَت من الاستقرار الحياتي والأُسري وبناء مستقبل أفضل، لتحظى بالإنسانية في حياة قصيرة يرغب المرء أن يعيشها بسلام ووئام مع غيره لتمتلئ عينه بمباهج الحياة. وختامًا، من الضروي لنا أن ندرس هذه التجارب لنستفيد منها في واقعنا العربي والأُردني.. والله من وراء القصد.
*إعلامية وكاتبة أُردنية روسية.
_ //_ //_ //_