في ذكرى ميلاد الملك الحسين لا خاتمة لأَحزانِنا عليك !


محمد دوادية

الملك الحسين ظاهرة قيادية مدهشة، برهنت مسيرته وحكمه طيلة 47 عاما، على أن المُلْكَ يقوم على المحبة والكرامة والعدل والصفح والإنصاف، لا على الأشلاء والظلم والفساد والدمار والمعتقلات والمقابر الجماعية.

كان متساميا مترفعا سريعا اتصاليا، وتجلى ذلك في ولعه بالطيران، وسباقات السرعة، والدراجات النارية، والراديو، والتزلج على الماء، والتنس.

ظل قلب الحسين مفطورا، على اغتيال جده الملك المؤسس عبد الله الأول، على أبواب المسجد الأقصى، ولا يجوز أبدا أن نغفل عن الحقد الصهيوني على الملك المؤسس، لدوره الأوحد الحاسم، في انتزاع الأردن من وعد بلفور عام 1922.

كانت لجنة اعمار المسجد الأقصى تعاني من نقص مالي فادح، فأرسل الحسين إلى لجنة الإعمار الهاشمي، رسالة بتاريخ 11 شباط 1992 جاء فيها:
"... فإنه ليسعدنا أن ننقل إليكم تبرعنا الشخصي، مقدماً لهذا العمل العظيم باسم أسرتي الهاشمية سليلة آل البيت وحاملة رسالته.
وإذ علمنا منكم أنَّ ما هو متوفر لديكم هو مبلغ مليون ومائتي ألف دينار أردني، فإنني أضيف لهذا المبلغ ما مقداره 8.249 مليون دولار تبرعاً شخصياً مني ومن أسرتي الهاشمية".
كان المبلغ هو ثمن بيت الملك الحسين في لندن، باعه عندما علم بحاجة المسجد الأقصى إلى المال، فحمل معالي الصديق نبيه شقم، رئيس التشريفات الملكية «الشيك» ثمن البيت، وقدمه إلى لجنة إعمار المسجد الأقصى.

وحينذاك كتب الصديق هاشم القضاة: "إنّ من يبيع بيته ليعمّر بيوت الله لن يخذله الله ابدا".

كنت أعد تقريرا صحافيا يوميا يتضمن أبرز ما كُتب في الصحافة الوطنية والعربية والدولية عن الأردن، وعن الملك، فطلب أن يتضمن التقرير الإساءات الشخصية قبل المدائح.

كان كريما رعى أسر خصومه السياسيين، واستوعب المعارضة، فلم يوقع أو يصادق على أي حكم بالإعدام.
وكانت ثروته عندما رحل، 16 مليونا، 10 من سمو الشيخ زايد.

تميز بالشجاعة والإيمان. فقد تعرض لأكثر من 20 محاولة انقلاب، أبرزها إدخال صاروخي سام لإسقاط طائرته عام 1980، عن طريق حزب الشعب الثوري الأردني.
تم القبض على المتورطين ولم يَعدِم أحدا منهم.

كسر شوكة الجيش الإسرائيلي في معركة الكرامة يوم 21 آذار 1968.
ولم يؤيد غزو الكويت في 2 آب 1990،
ولم يؤيد غزو العراق في 17 كانون الثاني 1991، وأصر على الحل العربي.

حين حمّ القضاء، كنت سفيرا في المملكة المغربية التي أرسلني اليها الملك الحسين قبل أقل من 6 أشهر.
كان حاسما بالنسبة للحسين، أن يغمض عينيه تحت سماء بلاده التي أشادها وأعلى بنيانها وحفظ كرامة مواطنيها.
كان كرما من الله وفضلا عليه وعلينا، أن أسلم الحسين الروح بيننا.
(2)
وتعالوا نعود إلى سنوات خلت.
عندما أصبحت الطائرة الملكية فوق عمان، مال الملك العاشق بجناحها ميلا خفيفا تحية لربة عمون.
انهمرت دموعه. فهو الملك، القائد، الجسور، الطيّار، المقاتل، السياسي، الحليم والداهية.
وهو أيضا الملك، العاشق، الإنسان، الحنون، العذب، الشغوف، الكريم والرحب. الذي يقطر رقّة وسماحة.
سجّل حنا فراج مصور الملك، الذي كان على متن الطائرة، تلك اللقطة الفائقة الرومانسية والوله والعشق، بكاميرته، وأرسل كلّ ما صوّر إلى التلفزيون الأردني. لم أدرِ عن دموع الملك في سماء عمان إلا بعد سنوات، عندما التقيت مع فراج فراج وحنا فراج ويعقوب خوري وإميل حداد وعلي العطيات في منزل الشاعر عيسى بطارسة في كاليفورنيا في آب عام 2011 .
«اجتهد» أحد المخرجين في التلفزيون الأردني وقرر أن الملوك لا يبكون، وأنهم إن بكوا، فلا يجب أن يطلع بكاؤهم على الملأ.
ورأى المجتهد أن الملوك يجب أن يظلوا متجهمين بوجوه صارمة حازمة، فشطب تلك اللقطة -الكنز ولم يبثها فحرمنا من الاطلاع على المزيد من جوانب شخصية هذا الملك العظيم.

عندما حطّ الملك بالطائرة على مدرج مطار ماركا عائدا من رحلة العلاج الأولى في تشرين الثاني 1992، كان أول ما قام به، أن توجّه بموكبه المهيب إلى قصر زهران مخترقا شوارع العاصمة التي امتلأت بأهل مملكته، يستقبلونه بالأهازيج وحلقات الدبكة والزغاريد والأدعية القلبية الحارة والأرز والورود والنذور.
وهناك في زهران قبّل الملكُ الإبن، يديّ والدته الملكة زين الشرف ورأسها، فحصلنا على لقطة نموذجية فائقة الكرامة لكل أم اردنية.

ذهبنا بمعية ملكنا الحبيب إلى جامعة اليرموك في ربيع 1993، في الطوّافة التي كان يقودها بنفسه، وكنت آنذاك مدير الإعلام والعلاقات العامة للديوان الملكي.
كان استقبالا أسطوريا في رحاب جامعة اليرموك.
طلابنا حزام الظهر، الأشد وضوحا وحساسية وصدقا وعفوية، والأبعد عن التملق والمصلحة، أحاطوا بالملك حتى أوشكوا أن يعصروه. لم يكف الحرس الملكي للحفاظ على حوزة تتيح للملك أن يتنفس. فتدخلنا كلنا لعمل طوق حول الملك المبتهج، كما لم يبتهج من قبل.
لم ارَ فرحا ولا حبا ولا اعتزازا ولا امتنانا كما رأيته في عيون الطلبة الذين زارهم الملك وأتيح لهم أن يروه بأمهات عيونهم.

في طريق العودة من جامعة اليرموك إلى عمان، مرّ الحسين بالطوّافة فوق مدينة الفحيص. هاله وهالنا، ما رأينا من تجريف وتدمير للبيئة نجمت عن استخدامات مصنع اسمنت الفحيص الجائرة للأرض. فأوعز يرحمه الله ويغفر إليه، بزراعة أماكن التجريف بالأشجار، وكان ممتقعا حزينا على مساحة جبلية واسعة تحولت الى حفر ونتوءات.
(3)
كنت في المملكة المغربية عندما وقعت كارثة رحيله.
كان نشيجي يصل إلى عنان السماء. كنت أنوح وأجوح وأنتحب بكل جوارحي مساء ذلك اليوم المشؤوم.
وخشية أن يرتعب أطفالي حملت نفسي إلى سفارتي وأغلقت بابها عليّ وأخذت حريتي وغرقت في الحزن والظلمة.
أبلغني معالي الصديق سي عبد الحق المريني رئيس التشريفات الملكية المغربية أن سمو الأمير محمد ولي العهد سيترأس الوفد المغربي نيابة عن الملك الحسن لتقديم العزاء إلى الملك عبدالله.
وما هي إلا دقائق حتى اتصل بي سمو الأمير محمد بن الحسن الثاني ولي العهد معزيا.
شكرته وقلت له: أنا من يعزّيك يا سيدي ولي العهد. فالفقيد الغالي هو عمك الذي تحبه ويحبك. وأرجو أن أتمكن من تعزية صاحب الجلالة الوالد بإبن عمه.

قال لي الملك الحسن الثاني عندما أتيح لي أن أعزيه: كنت أدعو للحسين الغالي على قلبي بالشفاء في كل صلواتي. وقد أوعزت إلى سفارتنا في أميركا أن ترسل كل يوم، الورود وأطباق الحلوى المغربية التي يحبها الملك، إلى جناحه في مستشفى مايو كلينك.

اتصلت مع تشريفاتنا الملكية وأبلغتهم بتفاصيل الوفد المغربي. وأرسلت إلى وزارة خارجيتنا مستأذنا القدوم إلى عمان، لحضور مواراة الثرى، من أواريه اليوم في قلبي ووجداني.
ولما طلبت من رئيس التشريفات الملكية المغربية أن يمكّنني من السفر إلى عمان على متن طائرة سمو ولي العهد، قال لي أنه سيبحث هذه الإمكانية. ثم أبلغني بعد ساعة، أن لي مكانا على الطائرة الملكية.
وحصل ما حمدت الله على حصوله. اتخذت الخارجية الأردنية أكثر القرارات حكمة: السفراء الأردنيون يبقون في سفاراتهم و في مقارهم. صحّاني القرار ومكنني من اتخاذ الترتيبات اللائقة واستقبال المعزين الذي امّوا السفارة الأردنية في السويسي بكثافة خففت عليّ كثيرا.
زار بيت العزاء وفود من كل أنحاء وطبقات وأحزاب ومنظمات وهيئات الشعب المغربي. وكان على رأس المعزين وأولهم دولة رئيس الوزراء المغربي صديقي سي عبد الرحمن اليوسفي.

للملك الحسين مكانة سامية لدى ملوك المغرب العلويين، ولدى أبناء الشعب المغربي كافة. فطائرة الملك الحسين، كانت أول طائرة تحط في الرباط، للتهنئة بنجاة الملك الحسن، وفشل محاولة اغتياله في انقلاب الصخيرات الشهير، الذي دبّره الجنرال اوفقير، وقاده الجنرالان امحمد اعبابو ومحمد المدبوح، يوم 10 تموز سنة 1971.

عندما حطت طائرة الحسين في مطار سلا بالرباط، لم يكن الانقلاب قد انتهى كليا، وكانت فلول الانقلابيين، ما تزال تحتجز المطرب عبد الحليم حافظ في الإذاعة، وتحاول إرغامه على قراءة «بيان الانقلاب الأول»، وكانوا ايضا في عدة مراكز حساسة في الرباط.

وقد سمعت ملكنا الغالي عبد الله الثاني، وملك المغرب الحبيب محمد السادس، يتبادلان الحديث دون تكليف، ويتخاطبان بالاسم الأول. وكنت آنذاك في بعثة الشرف المرافقة للملك محمد السادس عندما زار الأردن في أيار 2002 وأنا سفير في المغرب.

عندما قرر الملك الحسين في أيار 1998 تعييني سفيرا، قال لمن كانوا معه، وهم الأمير زيد بن شاكر، و صلاح أبو زيد المستشار السياسي للملك، وسميح باشا البطيخي مدير المخابرات العامة: «محمد نشمي ورجل طيب خدمنا بأمانة وإخلاص».
وفي زيارتي إلى بلدية الخليل، وأنا وزير للشباب عام 1997، قالت لي سيدة خليلية أنيقة، أطلت برأسها من شباك سيارتها، وأنا على باب البلدية، برفقة الشيخ مصطفى النتشة رئيس البلدية، والصديقين محمد أمين الجعبري ، ومحمد سعيد مضية: سلملي على الملك حسين، إحنا بنحبه.

لو أن كل من أنصفه الملك الحسين ورعاه، كتب عنه سطرا، لإمتلات الصحف بحبر الوفاء.
ولو تصدّق كلُّ من وفّر له الحسين، جامعة ومدرسة ومستشفى وطريقا وميناء، بدينار واحد عن روحه، او قرأ عليها الفاتحة مرة واحدة، لكان ذلك أقل الوفاء.
(4)
كان الحسين ينطوي على طاقة إيجابية مذهلة. كان «ملحّق على كل الدنيا»، له ذاكرة فيل فلا ينسى.
يهتم بالإنسان كثيرا، ويهتم بالشباب كثيرا جدا. يتقن فن البقاء إتقانا لافتا يدعو إلى الإعجاب، حتى من خصومه وأعدائه.
كان أقدر القادة على تطبيق قاعدة «صفر أعداء».

وقد رعته عين الله، فنجا من محاولات انقلاب عديدة، تم الكشف عن بعضها وتم إغفال وإهمال بعضها.
والملك حسين من أكثر القادة الذين تعرضوا إلى سوء الفهم، و إلى الظلم المفرط. لكن معظم الذين ناصبوه العداء، عادوا إلى امتداحه، بعد أن تبينوا معدنه وحقيقته، وخاصة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي امتدحه في برقيته الشهيرة، بعدما شتمته إذاعة «صوت العرب» القاهرية، أكثر من 15 سنة، وصمته خلالها بالخيانة والعمالة والرجعية، إلى آخر أوصاف ذلك الزمن العربي المقيت الغابر، زمن الهزائم والانكسارات والنكبات.

جاء في برقية الرئيس جمال عبد الناصر إلى الملك الحسين بالحرف الواحد:
"اخي الملك حسين، عندما يكتب التاريخ سوف يذكر لك جرأتك وشجاعتك. وسوف يذكر للشعب الأردني الباسل أنه خاض هذه المعركة فور أن فرضت عليه، دون تردد ودون أي اعتبار إلا اعتبار الواجب والشرف.
بقي لي وأنا اعلم كل جوانب الظروف التي نمر بها أن اعبر لك عن كل تقديري لموقفك الشجاع ولإرادتك الحاسمة وللبطولة التي اظهرها كل فرد في الشعب الأردني والجيش الأردني".
أخوكم جمال عبد الناصر. القاهرة 6/6/1967.
(المصدر: الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1967 مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت. مجلد 3 صفحة 336-337).

تميز الملك الحسين بالقدرة الفائقة على استرداد واستيعاب المعارضة السياسية، التي كانت ذات قوة وحضور طاغٍ في الشارع الأردني، حتى أنه كلّف زعيم المعارضة السياسية الأردنية المحامي سليمان النابلسي في 29 تشرين الأول 1956، بتشكيل حكومة حزبية ائتلافية، ضمت اقطابا وقيادات وطنية وشيوعيين وبعثيين وقوميين أمثال عبد الحليم النمر وشفيق ارشيدات وعبد الله الريماوي وأنور الخطيب ونعيم عبد الهادي وصالح المجالي وصالح المعشر وعبد القادر الصالح وصلاح طوقان وسمعان داود.

وكان «جابر عثرات الكرام» بحق. يحتفظ عنده بسجلات للرجال الشرفاء الذين يتقنون عِفّة النفس.
وكان «كسّاب وهّاب» يجود بلا حدود. وهو من خير من عرفت الأرض من الكرماء، الكرم الخفي الذي لا مِنّة فيه ولا رِئاء.

ونتقرّى العبرة في خروج شعبنا بكامله إلى وداعه ودموعهم وآهاتهم ولوعاتهم الجليلة فوق الوصف.

و أختم بأنْ لا خاتمةَ لأحزاننا عليك أبا عبد الله.