التقوى والبرّ والحكومة البارّة


   د. مهند العزة

 

في زمن الفناكيش البرلمانية التي لا تنقطع ولا تستحدث إلا من العبث، وبعد انطلاق موسمها التاسع عشر منذ سنتين وما تخلله من حلقات درامية اكتنفتها أحداث مثيرة مثل: فنكوش تمرد أسامة العجارمة.. وفنكوش كرسي الرئيس.. وفنكوش مهاجمة وزيري الصحة والتعليم من نائب لم يحضر من جلسة النقاش سوى آخر 3 دقائق استغرقها في مهاجمة الوزيرين ثم أنفق أضعافها متحدثاً عنها لوسائل الإعلام؛ فرقع فنكوش جديد  جاء هذه المرة بعنوان وموديل مبتكر هو: "اتقي الله" الذي غالباً تم إعداده في السيارة أثناء التوجه إلى دار رئاسة الوزراء خلال التوقف في أزمة الدوار الرابع، لتتم فرقعته وهو طازج بنار الفرن في مكتب رئيس الحكومة بصيحة تحاكي صيحات الفنانة فردوس عبد الحميد في مسلسل "ليلة القبض على فاطمة" وغيره من دراما الثمانينيات، لتتردد أصداء صرخة: "اتقي الله" في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، فتبدأ إعادة بث حلقات الخماسية الدرامية المستهلكة "نحن هنا" التي تتلو كل فنكوش مستهدفةً تذكير الجمهور بمؤلفين ومخرجين وممثلين لا يعرفهم سوى مقربوهم ولا يكترث لمعرفتهم من عداهم.

فنكوش "اتقي الله" لم يأتي مختلفاً عمّا سبقه من فناكيش الموسم الحالي (19)، فهو  يروي قصة البطل الذي جاهد بحنجرته  من أجل مصالح المواطنين فصاح في وجه رئيس الحكومة ثم ولّى الدبر ولم يعقّب، لتبدأ رواية القصة بتحابيشها وبهاراتها على زبائن المقهى الشعبي على خلفية صوت سميرة توفيق وهي تغني: "فدوة لعيونك يا أردن"، مع نهاية مفتوحة –وإن كانت معروفة للجميع- تشير إلى وجود "أزمة" -مفتعلة طبعا- مع الحكومة، ليس لا قدر الله بسبب موقفها من المطالب التي شكلت السياق الدرامي للفنكوش، أو لخلاف معها على الجدول الزمني لتنفيذها.. فهذا ليس لب القضية ولا محورها، إذ يكمن أساس الموضوع في حبكة الفنكوش نفسها المتمثلة في اختلاق موقف وأزمة من لا شيء، فافتعل معد/منتج/مخرج/بطل  الفنكوش مشكلة من رد فعل رئيس الوزراء على قوله له: "اتقي الله"، حيث أجابه الرئيس: "أنا متقي الله من 5 آلاف سنة من قبل ومن بعد"، ليجد الباحث عن الأزمة ضالته في هذه العبارة، فحمّل  عليها البناء الدرامي بأكمله، لتكتمل قصة خماسية "نحن هنا" المستهلكة، فيعود بطلها إلى قواعده غانماً مطالباً باعتذار رسمي، معلناً عن "جولات مكوكية من الوساطة تقودها شخصيات وازنة"، ثم يطمئن الجمهور غير العابئ وغير القلق أصلا؛ بأن "جهود الوساطة مستمرة ولم تصل إلى طريق مسدود".

في غمرة مكافحة انتشار فيروس كورونا حيث تحول التعليم والعمل والاجتماعات والحفلات والنشاطات الثقافية والفنية بل وبعض النشاطات الرياضية عن بعد، وكانت نتائج ذلكم بوجه عام سلبية لما انطوى عليه التباعد في تلكم المجالات والنشاطات من ضعف في الفاعلية والأثر والتأثير، ناهيك عن خلق حالة من العزلة والاغتراب، هذا فضلاً عن تنامي ظاهرة العنف المنزلي والمجتمعي.. لم يطل التحول عن بعد الحياة السياسية على الرغم من أنها الأكثر ملاءمة لهذا التحول لعدم وجود ما يخشى عليها منه، فضعف الفاعلية والتأثير سِمَتُها والعنف اللفظي وأحياناً الجسدي والاغتراب والعزلة سَمْتُها، لذلك ربما اقتضى الحال أن يكون من بين توصيات لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية توصية بأن تكون ممارسة الحياة البرلمانية والحزبية خلال السنوات العشرة القادمة عن بعد؛ لتقليص التباعد بينها وبين المواطن وتعزيز التقارب معه من خلال الأفكار والنقاش الجاد بعيداً عن التلامس والتباوس أو التشابك والتعارك.

مراجعة الممارسات البرلمانية في الدول الديمقراطية الحقة مثل بريطانيا، تظهر أنه لم يطلب أياً من أعضاء مجلس العموم من الحكومة تقديم اعتذار لسبب شخصي يعود إلى حدة النقاش.. أو ارتفاع نبرة الصوت.. أو الرد بطريقة فجة.. وستجد أن دعوات الحكومة للاعتذار جميعها تتعلق بمسائل مبدئية رأى فيها بعض أعضاء المجلس خروجاً من الوزير أو رئيس الوزراء على القيم أو المبادئ التي تحكم بريطانيا العظمى، ومن ذلك مثلاً لا حصرا: استهجان عدد من أعضاء مجلس العموم سنة 2016 تصريحات رئيس الوزراء ديفيد كامرون في جلسة مساءلة تحدث خلالها عن لقاء زعيم حزب العمال جيريمي كوربن ووزير الخزانة في حكومة الظل العمالية جون ماكدونل بمجموعة من المهاجرين في بلدة كاليه الفرنسية ودعوتهم للقدوم إلى بريطانيا والعيش فيها، حيث اتهمهما رئيس الوزراء بعدم الالتفات أولاً للأسر البريطانية وقال ساخرا: "لقد التقيا بحفنة من المهاجرين.."، فقامت الدنيا ولم تقعد على استخدام لفظة "حفنة"، ورأى فيها أعضاء المجلس نوعاً من عدم الاحترام للمهاجرين. وفي سنة 2018، طالبت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي وقيادات وأعضاء في حزب المحافظين والمعارضة وزير الخارجية آن ذاك بوريس جونسن بالاعتذار عن تعليقات له وردت في مقال كتبه لصحيفة الديلي تلغراف مشبهاً ارتداء النقاب بأنه يجعل مرتدياته: "مثل صناديق البريد، وسراق البنوك"، إذ واجهت تعليقاته هذه استهجاناً واسعاً من زملائه وزميلاته في الحكومة والحزب والمعارضة.

هكذا تنتصر البرلمانات الديمقراطية المتحضرة للقيم والمبادئ لا لشخوص أعضائها، فاختزال الرقابة والمساءلة البرلمانية في مشادة كلامية ومشاجرة وطلب اعتذار... يؤشر إلى افتقار المخزون المعرفي والممارساتي لعدد كبير من اللاعبين في المشهد السياسي المحلي عندنا وتماهي جلهم مع أساليب الاستعراض والإثارة الشعبوية التي قد ينجذب إليها البعض، لكن سرعان ما يدرك الجميع  أنها محض صفاقة سياسية لا تستحق التصفيق.

الحكومة التي تواجه برلماناً الرقابة عنده: وصلات ردح،والمساءلة سب وقدح، والانتصار تشهير وفضح، والمطالب الفردية مناط قرار حجب الثقة أو المنح.. هي بلا شك حكومة محظوظة رئيسها ووزراؤها بارّون بوالديهم وأمهاتهم داعيات لهم في ظهر الغيب أو عند أستار الكعبة أو على عتبات كنيسة المهد.. بأن "يوقف الله لهم في طريقهم أولاد الحلال الشعبويين غير العارفين وغير المهنيين، وأن يكفيهم شر عصبة الأشرار من المفكرين والمحللين والباحثين".