د. حازم الراوي يكتب:-إيران بين المطرقة الإسرائيلية.. وسندان أذربيجان
بين الفينة والأخرى تصدع الفضائيات رؤوسنا بالتهديدات الإسرائيلية العسكرية النارية ضد إيران، فذاك هو أفيف كوخافي رئيس اركان الجيش يهدد، وهذا هو بيني غانتس وزير الدفاع يتوعد، وذاك هو نفتالي بينيت رئيس الوزراء يشير الى الخيار العسكري!
فهل يا ترى يمكن أن تتحول هذه التهديدات الى واقع اجرائي باستخدام القوات المسلحة لضرب إيران؟ أم أنها تبقى في دائرة الحرب الإعلامية والنفسية ليس الا؟
وبعيدا عن الاتجاه العام للعديد من المحللين والقراء والعامة الذين أصبحت لديهم قناعة تكاد أن تكون مطلقة بأن من المحال ان تصطدم إسرائيل عسكريا بإيران بسبب الظروف المأساوية التي حلت بالعرب نتيجة الأهداف العدائية المشتركة لكلا الطرفين ضد امتنا، بل القناعة بأن هنالك تحالفا بينهما للوصول الى المزيد من الانحدار والاندحار لامة العرب.
نقول بعيدا عن ذلك لا بد من الوقوف على حقيقة وطبيعة المعلومات والمستجدات التي شهدتها المنطقة، لنتصور ان كان هنالك فعلا صراعا حقيقيا بين الطرفين، أم هو صراعا إعلاميا فقط.
وإذا كان التحسب الإسرائيلي يكمن حاليا من انتاج إيران للقنبلة النووية قريبا وكما صرح بذلك المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية رافائيل غروسي بقوله (نحذر من اقتراب إيران من صناعة القنبلة النووية). حيث تشير التقارير الى زيادة نسيبة تخصيب اليورانيوم النقي من 20 بالمائة المسموح به وفق الاتفاق النووي الى نسبة 60 بالمائة، علما أن النسبة المطلوبة لإنتاج القنبلة النووية هي 90 بالمائة. وهذا يعني ان إيران تقترب تدريجيا من الوصول الى مبتغاها في برنامجها النووي العسكري. ولذلك تتبع مبدأ التقية السياسية في المراوغة والمماطلة من العودة الى الاتفاق النووي وفق المعطيات الجديدة التي تفرضها دول 5 زائد 1 لتحقيق كسب الوقت الملائم لتصنيع القنبلة النووية. وبالرغم من ان صناعة القنبلة النووية الإيرانية التي قد لا تكون بالعيار الثقيل الا أنها لا تعني نهابة المطاف، فهذا السلاح يحتاج أولا الى تجربة تحت سطح الأرض او تحت سطح المياه للتأكد من فاعليته، ويصعب على ايران تحقيق هذه التجربة حاليا تحت سطح أراضيها او تحت سطح مياه الخليج العربي او بحر قزوين لسببين، أولهما يتعلق بكشف حركته من القبو الذي صنع فيه الى المكان المقرر للتفجير تحت رصد الأقمار الاصطناعية الامريكية والإسرائيلية، والثاني تأثيره الخطير على ايران نفسها في حالة التفجير تحت سطح الأرض وعلى الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي، أما في بحر قزوين فيصعب تحقيق التجربة للعداء الإيراني الاذربيجاني والخلاف الإيراني التركمستاني حيث تطل كل من أذربيجان وتركمانستان على ضفاف هذا البحر.
ومع ذلك يبقى التخوف الإسرائيلي قائم من صناعة إيران للقنبلة النووية، فالحسابات الإسرائيلية تقوم على أساس المراحل الزمنية القادمة وليس الحالية فقط، فقد تحسب الحساب لعشرين أو ثلاثين سنة قادمة، فالسلحفاة تصل الى نهاية طريقها حتى ولو ببطء شديد، والكيان الصهيوني قائم على حسابات البقاء لأجيال قادمة من الاحتلال لأرض فلسطين العربية، ومتغيرات السياسة والتحالفات لا يمكن أن تبقى على الدوام كما هي.
ومن هذا المنطلق نرصد الأحداث التالية التي يمكن من خلالها تصور التوقعات القادمة:
أولا. الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان على البلاد المحادة لإيران من الشرق.
ثانيا. المناورات العسكرية والتهديدات المتبادلة بين إيران وأذربيجان المحادة لإيران من الشمال الغربي.
ثالثا. التحديات والاحتجاجات المناهضة لحكومة الملالي من قبل القوميات العربية والكردية والآذرية والبلوشية وحتى الفارسية داخل إيران بسبب الاضطهاد والوضع المعيشي الخطير الذي سببه الحصار الأمريكي وجائحة كرونا.
رابعا. الاستعدادات والتجهيزات والتدريبات العسكرية والامدادات المالية الإسرائيلية لاستهداف المنشئات النووية الإيرانية.
ودعونا نوجز بعض الشيء عن الاحداث المشار لها، ولنبدأ من آخرها، فقد صادقت الحكومة الإسرائيلية يوم 18 أكتوبر الحالي، في جلسة خاصة للمجلس الوزاري الأمني المصغر على تخصيص ما يعادل مليار ونصف مليار دولار لتجهيز الجيش وبناء قدرة عسكرية على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. وبمصادقتها على هذه الميزانية تتبنى الحكومة، عملياً، موقف رئيس الأركان أفيف كوخافي، الذي حذر من التأخير في إحباط مشروع إيران النووي. كما ان أمريكا وافقت على تزويد اسرائيل بالقنبلة الشهيرة "جي بي يو- 57"، وهي القنبلة الأضخم في العالم، والتي يمكنها تدمير منشآت تخصيب اليورانيوم تحت الأرض إذ يصل وزنها إلى نحو 14 طنا (وزن الرأس المتفجر بها 2.5 طن)، ويتم إلقاؤها من الجو، وبعد إسقاط القنبلة، تختفي تحت الأرض إلى عمق يصل إلى 60 متر، ثم تتسبب في انفجار مدمر. وبذات الوقت فقد أعلنت رئاسة اركان الجيش الإسرائيلي عن البدء بتدريبات سلاح الجو لضرب المنشئات النووية الإيرانية. فهل هذه التصريحات النارية التي تبثها القناة الإسرائيلية 12 والتهديدات العلنية تدخل ضمن ممارسة الضغط على إيران للعودة الى الاتفاق النووي ضمن الشروط الامريكية التي يمكن أن تكون إسرائيل قد فرضتها على الولايات المتحدة الامريكية لضمان توقف إيران عن برنامجها العسكري النووي وضبط مديات صواريخها الباليستية، وسحب ميليشياتها من الانتشار في سوريا، بل حتى اجبارها على رفع يدها عن هذه المليشيات الولائية. أم أنها بالفعل استحضارات ودلائل عمل عسكري واسع ستتبناه اسرائيل في تدمير المنشئات النووية. وقد تكون زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة الى موسكو ولقاء بوتين ذات صلة بهذا الأمر، فالتصريح الإعلامي المعلن عن هذه الزيارة أشار الى أن إسرائيل ستستمر بضرب المواقع الإيرانية في سوريا، وقد طلب بوتين من بينيت عدم استهداف البنى التحتية السورية، وعدم التعرض لرموز النظام السوري، وذلك يعني ضمنا موافقة روسيا الاتحادية على تدمير كافة المواقع الإيرانية وحلفاءها في سوريا، أما الغاطس من الأمور غير المعلنة عن هذه الزيارة، فقد ينطوي على طلب بينيت من بوتين القرار على سحب الخبراء الروس من المنشئات النووية الإيرانية لضمان سلامتهم في حالة القرار على تدمير هذه المنشئات من قبل الطائرات الإسرائيلية.
وبالطبع فان في كلتا الحالتين سواء كان التهديد الإسرائيلي يستهدف اخافة إيران للعودة الى الاتفاق النووي وفق الشروط الامريكية، أم هو تهديدا حقيقيا لاستخدام القوة العسكرية، فإنه سيؤدي الى خسارة إيران ما بنته عبر سني مشروعها الامتدادي والنووي بلا مقابل.
ومن ناحية أخرى فان نظرنا الى محيط خارطة إيران الجغرافية لوجدنا احداثا متتالية وحادة تشير جميعها الى فرض المزيد من التحديات الخانقة ضد إيران، ولعل اخطرها يكمن حاليا في التوتر الحاصل بين إيران وأذربيجان الذي وصل الى حد تحشيد الجيوش واجراء مناورات عسكرية على حدود الطرفين، وتبادل الاتهامات، بل التهديدات بينهما. فإيران تخشى من التعاون العسكري الاذربيجاني الإسرائيلي وتشير الى وجود إسرائيلي عسكري قرب أراضيها، وأذربيجان تتهم الحرس الثوري الإيراني كما هي العادة الإيرانية المألوفة بإنشاء مليشيا (حسينيون) المسلحة داخل الأراضي الآذرية لتقويض أمن واستقرار البلاد والتي يقودها المدعو توحيد إبراهيم بيغلي.
الغريب في الأمر أن إيران تدعم أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان الشيعية في الصراع المسلح بين الطرفين حول إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه. وهذا ما يؤكد أن المشروع التوسعي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ليس مشروعا للتشيع فيما يسمى بتصدير الثورة الإسلامية، انما هو مشروعا قوميا لإعادة ما يسمى بالإمبراطورية الفارسية، وان حكم الملالي في طهران مستعد للتخلي عن كل من يواليها من أجل تحقيق مصالحها! وهذا ما قد ينتج عنه فيما لو فرض على إيران العودة الى الاتفاق النووي بالشروط الامريكية في العديد من الأمور بما فيها التخلي عن أذرعها التي فرضت الفوضى في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
والا كيف نفسر هذا الدعم الغير محدود لأرمينيا ضد أذربيجان الشيعية المجاورة لحدودها؟
والأغرب من ذلك ان القومية الآذرية داخل إيران تشكل نسبة 25% من سكان إيران حيث يبلغ نفوسهم بحدود 20 مليون نسمة! هذه القومية التي تتعرض الى الاضطهاد من قبل سلطات الامن الإيرانية بالرغم من كون غالبية سكانها من الشيعة، حالها حال ما يتعرض له أبناء القوميات العربية في الأحواز والاكراد في كرمنشاه وايلام وكذلك البلوش في سيستان وبلوشستان.
هذه القوميات المناهضة لحكم الملالي والتي طالما طالبت بحقوقها دون أي اكتراث، انتقلت الى العمل المقاوم كما هو الحال لجيش العدل وجند الله البلوشية، ونشاطات الحزب الديمقراطي الكردستاني المسلحة ضد الحرس الثوري الإيراني، والاحتجاجات العربية العارمة في الاحواز، فضلا عن القومية الأخطر على النظام المتمثلة بالقومية الآذرية كما ذكرنا آنفا.
وإذا ما نظرنا الى الحدود الشرقية لإيران، فان الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان قد أنتج عقيدتان متناقضتان بين دولتين متجاورتين بطول حدود تقارب الألف كيلومتر يحكمهما نظام (الملالي) في كل منهما، يتزعم إيران فيها (مرشد) مطلق الصلاحيات، أما أفغانستان فيتزعمها (أمير مؤمنين) مطلق الصلاحيات. وإذا كان الوقت والظرف الراهن لا يسمح لطالبان الا أن ترسخ حكمها وتفرض نفسها، الا أنها لا بد من أن تكون مستقبلا ندا شديدا وعنيدا لإيران في إطار تحقيق التوازن الاستراتيجي المطلوب حاليا في المنطقة الذي فرضه واراده الانسحاب الأمريكي. فطالبان لا يمكن أن تنسى الأفاعيل الإيرانية في تسببها بالاحتلال الأمريكي لأراضيها، كما لا يمكن أن تنسى ميليشيا الهزارة المسماة (مجموعات الحماية الذاتية)، والمؤلفة من مئات المقاتلين المسلحين المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني بقيادة ذو الفقار أوميد. ولعل أول عمل رمزي مضاد قامت به طالبان بعد سيطرتها على معبر (اسلام قلعة) بأن غيرت اسمه الى معبر (أبو بكر الصديق)، فتجبر كافة الشاحنات الايرانية الداخلة والخارجة الى أفغانستان أن تأخذ تصريح دخول مختوم باسم الخليفة (أبو بكر الصديق) رضي الله عنه، وما الى ذلك من رسالة رمزية أولى شديدة التأثير الى إيران!!
وهكذا تعيش إيران في محيط عدائي خارجي حول حدودها، حتى تركمانستان التي تقع في شمالها الشرقي لم تنجو من مشاكلها بعدما تفجرت مشكلة تصدير الغاز التركمانستاني الى اير ان ورفض الاخيرة تسديد الديون المترتبة عليها. كما سيبقى حكم الملالي يعيش في محيط عدائي داخلي من القوميات التي يحكمها بالسوط والضغط.
وإذا كانت المطرقة الإسرائيلية تطرق بقوة من خلال التصريحات النارية المدعومة بالعمل الاجرائي المسلح ضد المليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق، وبالعمل الاستخباري والسبراني ضد مواقع المنشئات النووية داخل الأراضي الإيرانية، فان سندان أذربيجان والقوميات المضطهدة داخل إيران سيكون قاسيا ان لم تتخذ إيران سبيلا منطقيا ويسيرا للتعايش بسلام مع العالم المتحضر دون مشاريع امتدادية، ودون مليشيات ولائية، ودون تقية سياسية.