الابعاد الثقافية الثلاث للفساد


الاردن بين منطقتين بانتظار موانع التدهور الى النوع الاول
مناخ النزاهة يحتاج الى تحسينات من مؤسسات الدولة وهذه اشتراطاته الثلاث
الانباط - خاص
هذا موضوع تحدث فيه كثيرون,  وسيستمر الحديث فيه ما دام الفساد يحيط بنا على هذا النحو, يعرّف الفساد بأكثر من طريقة، لكنّ هناك اتفاقاً على أنه استغلال غير قانونى لمركز قانونى يشغله شخص ما من أجل حبس أو تعطيل أو إعادة توزيع موارد الدولة وحقوق أفراد المجتمع على أسس شخصية بما يخالف القانون.
وهو بهذا المعنى قضية ذات أبعاد ثقافية ومؤسسية بالأساس، فعلى المستوى الثقافى يمكن التفرقة بين ثلاثة أنواع من الثقافة، بمعنى الحد الأدنى من الاهتمامات والقيم المشتركة، تجاه قضية الفساد، فهناك أولاً ثقافة متعايشة مع الفساد، وتعتبره جزءاً من مقتضيات الحياة وطبيعتها, وهى أشبه بمن ألف الخطيئة عن جهل أو عن اعتياد, وأهم خصائص هذه الثقافة أن كلمة فساد نفسها فقدت معناها الأصلى فى اللغة الأم ، ليحل محلها مصطلحات أخرى تجعل من الفساد أقرب إلى نوع من المجاملة اللطيفة أو حتى الصدقة المفروضة عرفاً, ومن المؤشرات التى لا تخطئها عين أن صاحب المصلحة حين يتقدم بطلب إلى جهة حكومية أو غير حكومية فإنه حتى لا يحتاج إلى استيفاء الشكل الرسمى بتقديم طلب, وفى هذه الحالة يكون البناء الاجتماعى غير الرسمى قد ابتلع تماماً البناء الرسمى بما يعنى أنه فعلياً لم يعد للدولة بمؤسساتها وقوانيها دور حقيقى فى تحديد من يحصل على ماذا وبأى حق وفى أى توقيت.
ثانياً هناك ثقافة قابلة للفساد المشروط، فهى ثقافة تقبل بالفساد طالما أنه تنطبق عليه بعض الشروط، مثل أنه فساد من أجل الحد الأدنى من الكفاف, وأمثلة ذلك متنوعة من قبيل فساد الدروس الخصوصية لمدرس لديه العلم ويعانى الفقر، وموظف يصرف للناس رواتبهم وهو أحوج منهم إلى المال. 
ومثل هذه الثقافة لا تقبل الفساد ممن يسرق ليغيّر سيارة فارهة بأخرى أو أن يقترض أموال البنوك ويهرب بها إلى الخارج أو أن يحيا أهل السطوة والنفوذ فى قصور مشيدة ويعيش أهل الفقر والعوز فى بيوت تفتقر الى ابسط احتياجات الحياة وسط بيئة مهشمة، ورغم أن هذه الثقافة تحارب الفساد لفظاً، لكنها لم تنجح فى تطوير إجراءات عملية لمواجهته لأن العقول تعانى من ركود القبور والبطون تعانى من فراغ طاغ يسحق الإرادة. وونعيش ومعنا الكثيرمن الدول العربية هذه الحالة حيث لا يبدو واضحاً ما آليات محاسبة المخطئ إن أخطأ، وإن ظل انتقاد الفساد والمفسدين خصيصة أصيلة. فالجسد لم يزل يقاوم المرض حتى إن أصاب بعض أجزائه, والمشكلة فى هذه النوعية من الثقافة أنها سهلة التدهور للحالة الأولى إن لم ترق إلى النوع الثالث من رفض الفساد ومطاردته.
ثالثاً: ثقافة رافضة للفساد إما لأسباب ثقافية بالأساس  أو لأسباب مؤسسية تتعلق بنجاح مؤسسات الدولة بضبط إيقاع المجتمع  وهو ما يخلق ما يسمى بـ"مناخ النزاهة", بيد انه لا يوجد مجتمع محصن ضد الفساد إلا إذا أدرك كيف يظهر وكيف ينتشر وكيف يمكن وقف زحفه. 
وإليكم واحدة من نظريات تفسير ظهور الفساد وانتشاره وهى النظرية المؤسسية، ووفقاً لهذه النظرية فإن الأصل أن الفساد يظهر بحكم عوامل ترتبط بمؤسسات الدولة ذاتها التى تقوم بدورها فى مرحلتين: مرحلة ظهور الفساد ثم مرحلة تحوله إلى ثقافة عامة, ولنتخيل قرية ما فى دولة ما يتعامل أفرادها مع مؤسسة ما ولتكن مركزاً طبياً, لو تبين لأفراد القرية أن أحد القائمين على المركز الطبى يتلقى رشاوى من أجل تسهيل دخول البعض دون البعض الآخر، فإننا سنكون أمام شائعة فساد.
 لكن هذه الشائعة لا تلبث أن تتحول إلى انطباع عام إذا ما انتشرت بين عدد كبير من أبناء القرية, وتتحول إلى رأى عام سائد, إذا ما عرف أبناء القرية أن أغلبية القائمين على المستشفى يتقاضون رشاوى, وهنا يساهم الخلل المؤسسى مرة أخرى ليس فقط فى إشعال الحريق ولكن فى انتشاره.
ويظل فساد مؤسسات الدولة «فرَضاً قابلاً للاختبار» حتى يتأكد لقطاع واسع من المواطنين أن عدداً كبيراً من المؤسسات، وليس فقط المركز الطبى الذى خرجت منه شرارة الفساد، تعانى من نفس الخلل, وهنا لا يكون الفساد شائعة أو انطباعاً أو رأياً عاماً وإنما يتحول إلى ثقافة يتناقلها أفراد الأسرة من جيل إلى جيل. 
بعبارة أخرى فإن بداية الفساد فى المجتمعات الحديثة لا بد أن ترتبط بخلل مؤسسى فى جهاز ما ثم يتحول الشعور بانتشار الفساد إلى انطباعات عامة إذا ثبت للمتعاملين مع هذه المؤسسة أن هناك شخصاً أو عدة أشخاص يتعيّشون من الفساد ويحمونه, وهنا تأتى العوامل المؤسسية مرة أخرى لتدحض هذه الانطباعات أو ترسخها, فإن رسخت تحولت هذه الانطباعات إلى رأى عام يسود بين الناس ومع زيادة رسوخه يتحول إلى ثقافة بحكم مؤسسات التنشئة فيعلم الأب ابنه أنه لا يمكن له أن يحصل على حقه إلا إذا دفع. 
وعلى هذا فلا بد من التدخل المؤسسى مرة أخرى لوقف التدهور الثقافى، وتكون نقطة البداية دائماً بقمة هرم السلطة فى أى مؤسسة، ولا ننسى أن الدولة هى مؤسسة المؤسسات، بحيث لا يكون أى تسامح من أى نوع مع أى فساد، ويرتبط الحكم النزيه بالديمقراطية ليس من قبيل المثالية السياسية ولكن لأسباب موضوعية تماماً، فالدراسات المختلفة أثبتت أن الديمقراطية فى ذاتها عائق للفساد حتى إن لم تقض عليه تماماً بحكم ثلاث آليات تأثير على الأقل:
فالتداول السلمى للسلطة، أولاً، يوفر البنية المؤسسية التى تكشف عن الفساد, لماذا؟ لأن المسئول الجديد لا يقبل أن يحاسب على خطايا غيره بل على العكس فإن دوره أن يكشف عن سوء استخدام السلطة من السابقين عليه.
ثانياً: تعدد مراكز صنع القرار داخل الدولة ورقابة أجهزتها بعضها بعضاً يكشف عن بعض ذيول الفساد، إن لم يكن كلها، بما يتيح للصحف المستقلة خيوطاً يمكن لها أن تسير وراءها لتكشف ما هو أعظم وأخطر.
ثالثاً: إن وجود إعلام مستقل وقضاء مستقل ومجتمع مدنى قوى، وهى كلها من خصائص الديمقراطيات الراسخة، تكشف الفساد بعد أن يقع وتردع الفاسدين المحتملين قبل أن يقدموا على ممارسته.
*هذه المادة منقولة بقليل من التصرف عن اطروحة او مقالة واسعة للكاتب معتز بالله عبد الرحمن من الشقيقة مصر بعنوان "الفساد المعضلة والحل", وهي لا تكتفي بان تصف الحال بل تضع المخارج.