مروان العمد يكتب :كلام في المحظور / الفتن المذهبية والطائفية
بعد ان تحدثت عن بعض الفتن السياسية التي تعرض لها الاردن في الآونة الاخيرة في مقالي السابق ، ولاني لا اريد ان اخوض حالياً بما يتم تداوله على جميع وسائل التواصل الاجتماعي ، فأنني سوف اتحدث اليوم عن فتنة اخرى لطالما اردت التحدث عنها سابقاً ، تلك الفتنة التي ما فتأت تطل علينا برأسها بين الحين والآخر ، والتي هدفها اثارة الفتنة الدينية والطائفية والمذهبية بين صفوفنا ، وخاصة مع اخوتنا في الوطن المسيحيين والذين تواجدوا على ثرى هذه الوطن قبل ظهور الاسلام وقبل وصوله اليه بمئات السنين ، ومع ظهور سيدنا عيسى المسيح عبد الله ورسوله وكلمته التي القاها على سيدتنا مريم العذراء . وهم من اقدم المجتمعات المسيحية في العالم ومن بدايات القرن الاول الميلادي ، وغالبيتهم من اتباع البطريركية الأرثوذكسية في القدس والتي تأسست أثناء حياة المسيح . وينحدر الكثير منهم من قبائل عربية ارتحلت من الجزيرة العربية وخاصة من اليمن بعد انفجار سد مأرب واستوطنت جنوب بلاد الشام واعتنقت الديانة المسيحية ، واهم هذه القبائل هي لخم وقضاعة وبني سليح و الغساسنة بالاضافة الى بقايا دولة الانباط ، وسميت دولتهم بدولة الغساسنة وكانت عاصمتهم بصرى الشام ، والذين تحالفوا مع الدولة البيزنطية . في حين انتقلت مجموعات من قبيلة لخم الى جنوب العراق واعتنقوا الديانة المسيحية ايضاً ، وشكلوا دولة المناذرة والتي كانت عاصمتها مدينة الحيرة ، وكان ملكهم يكنى بملك الملوك ، وتحالفت هذه الدولة مع الفرس .
وقد ساهم مسيحيو بلاد الشام والعراق في الفتح الاسلامي . فقد حارب ابو زيد الطائي ومجموعات من قبائل تغلب ونمر من المناذرة الفرس الى جانب المسلمين في العراق . وفي الاردن انسحبت قبائل لخم وجذاب وغسان من معسكر الروم في معركة فحل وانضمت الى معسكر المسلمين وقاتلوا معهم . كما حارب المسيحيون وخاصة من قبيلة العزيزات في معركة مؤتة بالكرك الى جانب المسلمين .
. وفي عام ١٦ للهجرة الموافق ٦٣٦ للميلاد ،وافق البطريرك صفرونيوس على تسليم مدينة القدس للمسلمين والى الخليفية عمر بن الخطاب بالذات . والذي ارتحل اليها الى ان دخلها واستلم مفاتيحها ورفض الصلاة في كنيستها حتى لا يحولها المسلمين الى مسجد ، وصلى في مكان قريب حيث اقيم المسجد العمري في ذلك المكان . ومنحهم العهدة العمرية والتي تم السماح لهم بموجبها بالاحتفاظ بكنائسهم وممتلكاتهم وان لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنقص منها ومن صلبانهم ، وان لا يكرهوا على دينهم وان لا يسكن معهم احد من اليهود فيها .
وقد دخل بعض مسيحيو بلاد الشام الاسلام ، فيما حافظ اغلبهم على دينهم مكرمين معززين ولم يكلفوا الا بدفع الجزية .
وقد شارك الغساسنة المسيحيين مع المسلمين في فتح شمال افريقيا واسهموا في اعمارها . واعتمد عليهم الخلفاء الامويين في إدارة الدولة وهم على دينهم لخبرتهم في ادارة الدواوين ودور المال .
وعندما شُنت الحملات الصليبية على ديار المسلمين في بداية القرن الثاني عشر الميلادي ، لم يتعاون جميع مسيحيو الاردن معهم ، بل تعرضوا للاضطهاد والقتل على ايديهم ، حيث قتلوا منهم مئات الالوف ودمروا لهم الكثير من كنائسهم . كما قاتل الكثير من مسيحي بلاد الشام الصليبيين تحت راية صلاح الدين الايوبي ، وما عيسى العوام الا مثال على ذلك .
واثناء الثورة العربية الكبرى شارك مسيحيو الاردن فيها . وبعد اعلان امارة شرق الاردن اندمجوا فيها وساعدوا في بناء الاردن الحديث . وتولوا فيه ارفع المناصب الحكومية . ولعبوا أدواراً قيادية في مجالات التعليم والصحة والتجارة والسياحة والزراعة والعلوم .
وقد تعرضوا للاضطهاد من قبل الصهاينة كما شاركوا هم في مقاومتهم الى جوار اخوانهم من المسلمين ، وقدموا الكثير من الشهداء في مدن فلسطين وعلى اسوار القدس . كما قام الصهاينة بمسح الكثير من القرى المسيحية في فلسطين عن الوجود وطرد اهلها او قتلهم . وفي مدينة القدس قامت العصابات الصهيونية بمسح الكثير من احيائها المسيحية وتهجير سكانها وإنشاء أحياء سكنية يهودية مكانها .
وظل مسيحيو الاردن يعيشون في حالة من التآخي مع اخوانهم المسلمين في عاداتهم وتقاليدهم . و يتمتعون بحريتهم في اقامة شعائرهم الدينية في كنائسهم في جو من الامن والاستقرار . ويتمتعون بكامل حقوقهم السياسية والدستورية . ولهم تسع مقاعد في مجلس النواب الحالي . كم ان لهم مؤسسات ومدارس دينية خاصة بهم . وقد تولوا ارفع المناصب السياسية والعسكرية ، وشاركوا في الدفاع عن الوطن وقدموا الكثير من الشهداء في سبيل حماية الاردن وحدوده وامنه الخارجي والداخلي ، واكلوا في بيوتنا واكلنا في بيوتهم ، وحضروا افراحنا وحضرنا افراحهم ، وزرنا مرضاهم وزاروا مرضانا . واسيناهم في احزانهم وقدموا لنا التعازي في احزاننا . قدموا التهاني لنا باعيادنا وقدمنا التهاني لهم في اعيادهم وعلى قاعدة لهم دينهم ولنا دين . ولم يكن ذلك يعني انهم اصبحوا على ملتنا ، ولا اننا اصبحنا على ملتهم . ولا يعني ذلك اننا اصبحنا نشرك في الوهية الله وننكر وحدانيته . ويكفي ان الاردن هو الدولة الوحيدة التي زارها ثلاثة بابوات كاتوليك وهم بولس السادس ، ويوحنا بولس الثاني ، وبندكت السادس عشر .
كما شهد التاريخ الاردني الكثير من القصص والحكايا الطريفة التي تعبر عن مدى التأخي بين المسلمين والمسيحيين في الاردن على امتداد رقعته .
واستمر الامر كذلك الى ان ظهر بيننا اصحاب الافكار المتطرفة والتكفيرية والذين لا يفهمون الدين الاسلامي الا على هواهم . واخذوا يدعوننا لعدم معايدتهم ومشاركتهم في افراحهم ، وعدم التردد على كنائسهم . بل انهم اعتبروا قيامنا بذلك موافقة منا على معتقداتهم الدينية وان ذلك كفراً بواح . وكان اكثر ما يقال ذلك في اعيادهم واحزانهم حيث قالوا عودوهم ولا تعايدوهم ولا تترحموا عليهم وألا فأنكم اصبحتم من ملتهم . ولا ادري كيف نصبح من ملتهم ان فعلنا ذلك بحق الجوار والصداقة والتعايش بل والمصاهرة . الم يسمح لنا ديننا الحنيف ان نتزوج منهم ، وان تكون بناتهم امهات لاطفالنا ، ويشرفن على تربيتهم ، وان نأكل مما صنعت ايديهن من طعام . وان ترتبط عائلاتهم بعائلاتنا ، وكل ذلك مع احتفاظهن بحقهن بالبقاء على دينهن وممارسة شعائرهن الدينية ؟ فكيف بعد ذلك نقول للزوج ان لا يهنئ زوجته في عيدها وان لا يعزيها ولا يواسيها لفقدها قريب او عزيز . وان نقول للابن او الابنة ان عليهم ان لا يهنئوا والدتهم او والدتهن في اعيادها ؟ وان لا يقدموا لها المواساة والتعزية في حالة وفاة احد اقربائها والذين هم اقربائهم بحكم علاقة النسب . وانهم ان فعلوا ذلك فقد خرجوا عن ملة المسلمين ؟
ولقد حصل وفي غمرة احتفالات الاردن بعيد الاستقلال ان قامت الكنيسة الارثوذكسية بكتابة عبارات من الانجيل المبارك على احد الجسور في عمان . الا ان البعض من حملة الفكر التكفيري وزارعي الفتن ، قاموا بشن حملة شرسة على هذا الفعل زاعمين ان هذه عبارات توراتية لليهود . وشنوا هجوماً شرساً على امانة عمان مطالبين امينها العام بالاستقالة . وللاسف فقد تماهت الامانة او بعض المسؤولين فيها مع هذه الحملة واصدرت بياناً قالت فيه ان احدى الجمعيات قامت بنشر عبارات من الاسفار دون الحصول على موافقتها ، وانه تمت ازالتها فوراً ، وانها لن تسمح بنشر عبارات تمس الدين والقيم والعادات والآداب العامة . ولقد كان لهذا البيان ردود فعل عنيفة من المواطنين المسلمين قبل المسيحيين ، والذين نددوا ببيان الامانة هذا واستنكروه ، الامر الذي ترتب عليه ان قام امين عمان برفقة وفد يمثلها بزيارة مطران الروم الأرثوذكس خريستوفوروس في دار المطرانية وقدموا اعتذارهم عن هذا البيان ، وان الامانة تحترم الديانات السماوية ولا تقبل الاسائة الى اي دين . وان البيان الصادر عن الامانة كان خطأ كبيراً ، ولا يمثلها ، وانها تقدم اعتذارها العميق للاردنيين جميعاً عن ذلك البيان وما ورد فيه . وتم بعدها اعادة تلك العبارات الى مكانها
وتعود هذه الافكار التكفيرية الى اعتبار البعض ان هذا الامر من قضايا العقيدة ، وان من يقول بجواز تهنئة المسيحيين يقرهم على اعتقادهم في الاله المرفوض لدى المسلمين . وهذا التوجه في منتهى الخطأ ، لأن التهنئة لو كانت اقراراً لهم في معتقدهم لحرم الاسلام الزواج من نسائهم المتفق على اباحته بنص آية المائدة . ومن مقتضيات الزواج حصول مساحة واسعة من التواصل ما بين المسلم وعائلته وزوجته غير المسلمة وعائلتها .
وكذلك فأن اباحة الاكل من طعام اهل الكتاب ، وقبول الرسول عليه الصلاة والسلام دعوة يهودية لتناول طعامها ، دليل اوضح ان هذا لا يعني اقرارهم في معتقدهم . كما ان رسول الله صل الله عليه وسلم استقبل في مسجده وفداً من نصارى نجران وسمح لهم ان يصلوا صلاتهم فيه ، فهل هذا كان اقراراً منه لهم في معتقدهم ؟ . كما قام النبي عليه الصلاة والسلام لجنازة يهودي او سار بها على رواية اخرى ، وقال اذا رأيتم جنازة فقفوا ، فهل كان ذلك إقراراً منه لهم على عقيدتهم ؟
وتعود اصول هذا التحريم الى فتاوى من قبل ابن تيمية وابن القيم ، والتي كانت قد صدرت في سياق زمني خاص ان افترضنا حسن النية . فقد كتب ابن تيمية ( كتابه اقتضاء السراط المستقيم لمخالفة اصحاب الجحيم ) ، والذي تكلم فيه عن مسائل التشبه باليهود والنصارى بأعيادهم في شرحه لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ( من تشبه بقوم فهو منهم ) ، حيث شمل بهذا التشبيه معايدتهم في اعيادهم ، في الوقت الذي كان فيه الصليبيون في بيت المقدس ، والتتار في بغداد وكانت الديار ديار حرب . في حين ان المعنى الصحيح لهذا الحديث النبوي الشريف ان لا نشاركهم طقوسهم باعيادهم . اما معايدتهم ومشاركتهم افراحهم واحزانهم فهي امور غير مشمولة بهذا الحديث . حيث ان الاسلام يدعوا الى التآلف والاحسان بين الناس ، ومن مظاهر هذا التآلف والاحسان حسن التعايش مع اخوتنا المسيحيين الذين يعيشون في سلام بيننا ، ومشاركتهم في كل شيئ باستثناء معتقداتهم وشعائرهم الدينية والتي علينا ان نحترم حرية ممارستهم لها . والقول بعكس ذلك هو نشر للفتنة والبغضاء بين افراد المجتمع الاردني والتعدي على حريتهم الدينية التي امرنا ديننا ان نحترمها وان لا نكرههم على اعتناق غيرها .
مروان العمد
٢٧ / ٧ / ٢٠٢١