كرنفال لتوحّش الأطفال
د. مهند العزة
"الناس. قناة تأخذك إلى الجنّة".
هذا الشعار الذي ملء الفضاء لسنوات لقناة الناس السلفية المصرية التي استمرت في البث منذ عام 2006 وحتى انهيار حكم الأخوان في مصر في مطلع تموز/يوليو 2013، يعد مثالاً حيّاً على بضاعة التضليل التي تنتهجها بعض القنوات والإذاعات الدينية التي تروّج لصكوك الغفران وتسليم نسخة من مفتاح الجنان و"كرت توصية" لخازنها رضوان لكل من يستمع إليها ويضع خطام عقله بين يديها.
بثّت قناة الناس منذ سنوات عدّة في أول أيام عيد الأضحى برنامجاً للشيخ محمود المصري استضاف فيه مجموعةً من الأطفال ما بين سن الرابعة وحتى العاشرة ليتحدثوا عن تجربة مشاهدتهم لعملية ذبح الأضحية، فكان يسأل الطفل: "شفت الخروف وهو بيدِّبِح؟"، لتأتي إجابة معظم الأطفال بالإيجاب، ليعاود سؤالهم: "خفت؟"، فيجيب الأطفال حرجاً وربما حقيقةً –وهذه كارثة- أنهم لم يخافُ، فيباركهم الشيخ ويهنّئهم على شجاعتهم! أما القلّة منهم التي قالت أنها لم تستطع مشاهدة ذبح الخاروف وسلخه وتقطيعه بسبب الخوف، فكان الشيخ يحاول إقناعهم بخطأ تصرفهم ويبسّط لهم المسألة واضعاً إياها في سياق أكثر من عادي مضفياً على الأمر برمّته هالة من التقديس والشجاعة، مع توجيه رسائل للأهل بضرورة تعويد أطفالهم الصغار على مشهد ذبح الأضحية لأنه "من السنّة"، على ذمّة هذه القناة التي لا ذمّة لها، ومع ذلك فهي حتماً "تأخذك إلى الجنّة".
استمرار عدد لا يستهان به من الدعاة ومريديهم ومن يسيرون في ركبهم على غير هدى ولا كتاب منير؛ في زرع التوحّش في نفوس الأطفال ووجدانهم، أمر لا يفسره سوى تغلغل ثقافة جعلت من سفك الدماء قربى ومن القتل شرف وحُسن عُقْبى ومن إذلال المخالف وإهدار كرامته إظهار للدين وإعلاء لكلمة الله، إذ كيف يمكن لهؤلاء أن يجدوا فائدةً واحدةً سوف تعود على الطفل ونفسيته وتكوين شخصيته برؤيته لحيوان مستأنس ربما أطعمه وسقاه بيده الصغيرة ولعب معه لبضع أيام قبل العيد ؛ يُنحر وتتدفق دماؤه على الأرض أمام عينيه؟ وما هي القيمة العظيمة التي يخشون ضياعها على الطفل أن لم يشاهد هذا المنظر المروّع؟
دعاة الحضّ على معاينة الأطفال صبيحة العيد لعملية الذبح والشبح، ربما كان عذرهم يكمن في جهلهم الميؤوس من شفائه، وأنّى يُشفَون وبعضهم لا يخجل أن يطلّ برأسه الفارغ إلا من نرجسية مقيتة وعجرفة على خازوق؛ على العالم بعلمائه ومخترعيه وإدبائه ومبدعيه ومؤرخيه... مادّاً لسانه لهم وهو يعايرهم بعلمهم وتقدمّهم وحضارتهم، متفاخراً عليهم بأنهم "خلقوا ليخدموه وأمته التي ما خلقت لتعلم ولا لتعمل، وإنما لتتعبّد".
المؤسف حقّاً هو تنطّع بعض المتطرفين من "التربويين" و"الأخصائيين النفسيين" وتصدّيهم لوضع قواعد وإرشادات للأسر حول كيفية تهيئة أطفالهم لاستمراء ثم استعذاب مشاهدة منظر الذبح والدماء والشبح، إذ يقول لك بعضهم في ما يشبه الشيطان وهو يعظ: "العمر المناسب لرؤية الأضحية وهي تُذبَح هو العاشرة قياساً على ما يسمى سنّ السعي وهو عمر النبي اسماعيل حينما افتديّ من الذبح... وقد يكون السنّ ما بين الخامسة والسادسة بحسب البيئة المجتمعية والثقافة السائدة... وأنه يجب استئذان الطفل وعدم إجباره... ويجب أن نذكّر الطفل دائماً وهو يلاعب الخاروف ويطعمه أن صديقه سوف يرحل يوم العيد... وأن الله ما خلقه إلا لنذبحه ونأكل من لحمه ونطعم الفقير منه... ثم يجب أن نمهّد للطفل قبل وقت الذبح بأنه سوف يرى الخاروف يذبح ودماؤه تسيل وأن هذا أمر طبيعي جداً وضروري لكي يستمتع بلحمه...".
لو كان لدى أسياد الأمم من دعاة تنظيم مهرجانات حيوان الأضحية المذبوح والدم المسفوح؛ وقت ليخرجوا فيه من قبو ظلماتهم فيقرأوا عن التأثير المرضي المخيف لهذا المنظر على نفسية الطفل الذي قد يمتد معه لسنوات طويلة وربما يصحبه طوال حياته، ولو أنهم سألوا عن أعداد من عاشوا وماتوا من أبناء وبنات هذه الأمّة دون أن يذوقوا اللحم بسبب مشاهدة الأضحية في بيتهم أو في باحة بيت الجيران وهي تُلقى على الأرض ويتم تكتيفها وتُقطّع أوداجها وتغرق في دمائها، أو لو أنهم حاولوا معرفة أعداد من تسببت هذه المشاهد في تأزيمهم نفسياً إلى حد وصل عند بعض الأطفال إلى حالة تبول لا إرادي والاستيقاظ فزعين من النوم وهم يصرخون... لأدركوا أن ما يدعون إليه لا ينسجم وفطرة البشر ويدمي حتى الضّاري من الحيوانات والحجر.
إذا كان من الصعب على مصّاصي الدماء الناطقين على الأرض باسم السماء؛ أن يستثمروا قنواتهم وإذاعاتهم وصحفهم في تعزيز الطفولة من خلال احترام هوية الأطفال المتطورة وتربيتهم على فنّ الحوار وحريّة اتخاذ القرار واحترام الاختيار وتشجيعهم على الإبداع والابتكار، فلا أقل من أن يكفّ هؤلاء الأدعياء عن التسويق قبيل كل عيد أضحى لكرنفال توحّش الأطفال.