العميد المتقاعد المهندس أحمد الحياري يكتب:-والدي في أكناف بيـت المقدس
أكـتب هذا المقـال بعد أن شـعرت أن هنـالك رائحة فتنـة عفنـة تطفـو علـى السـطح ...
وغضبـة صارخـة تغـزو صفحـات المنابـر الصحافيـة والفيسبوكيـة , وَلَجـت كـصدى لأصوات ناشـزة خرجـت عن جـادة الصـواب لكُـتَّاب كـبار وشخـصيات متمرسـة ومحنكـة في عالـم السياسـة .... لا يصدر عنهم أخطـاء جسـيمة بطريقـة عـفوية ...
وإذا حـدث ذلك فعليـك أن تقـرأ ما بين السـطور .
وخاصـة إذا كان المنشـور يثير السـخط وعنوانـه الفرقـة والبغضـاء بين مكـونات الشـعب الـواحد .
وأن محاولـة اختطـاف شـرف النصـر في معركـة الكـرامـة وتوظيفهـا في اغتيـال الوحـدة الوطنيـة هي خطيئـة كـبرى , توجـب إعادة الاغتسـال والنطـق بالشهادتيـن . وليـس مجـرد اعتـذار هزيـل لطلقـات مسـمومة تائهـة انطلقـت من بندقيـة مهترئـة , وبحـمد الله لـم ولـن تُصِـب الهـدف .
إن التشويـش ومحاولة العبـث في القـراءات التاريخيـة لحقبـة زمنيـة فارقـة في تـاريخنا جعلني أتذكـر والـدي رحمهُ الله , وأتذكـر بعض الأحاديـث التي كان يسـردها لـي عن تلك الفتـرة , وكانت كلماتـه تخرج من أعمـاق جسـده وليـس من لسـانه وشـفتيه , وكان يغرف من مكنونـات ذاكرتـه التي أرهقتـه , وكانت ملامـح وجهـه ونبرة صوتـه تتغيـر لجسـامة وأهميـة الأحـداث التي اعتبرهـا والـدي جـزء من وجدانـه .
كان والـدي في الجيـش العربـي وتحديـدًا في اتصـالات سـلاح المدفعيـة , وأحيـل على التقاعـد في العـام 1966 لعَرَضٍ مرضـي ألَــمَّ بـه حرمـهُ من الاسـتمرار ومشاركـة رفاقـه الأحـداث والمعـارك التي تلـت هـذه الفتـرة .
وعمـل والـدي في عـدة مواقـع منـها في قضـاء نابلـس وفي مواقـع قريبـة من مدينـة القـدس , وعـاش فتـرة من حياتـه في أكـناف بيـت المقـدس . وهي الفتـرة الأغـلى في حياتـه .
كان والـدي يقـول أنه لا توجـد فـروق واضحـة بين مدينـة نابلـس ومدينـة السـلط . وإن التشـابه بينهما كـبير من حيـث العمـران والأسـواق والشـوارع , وكذلك توزيـع العـائلات والتُّجـار في كلا المدينتيـن .
وتوافـق تـام في العـادات والتقاليـد ومـا يرافـق ذلك من تناغـم في المأكـولات والملبوسـات التي تكاملـت في المدينتيـن بحيـث أخـذت كـل واحـدة ما ينقصها من الأخـرى .
وبقـي والـدي يتذكـر قضـاء أجمـل اللحظـات في مدينـة القـدس وفي أكنـاف بيـت المقـدس ... وكـان يشـعر بقدسـية المكـان وعظيـم شـأنه.
وكـان والـدي يقـول أن الأردن وفلسـطين جسـد واحـد لـه قلـب واحـد انشـطر إلـى نصفيـن لا يسـتطيع أيٌ منهما العيـش دون الآخـر .
وكـان والـدي يحدثنـي عـن معركـة الكـرامـة ومن خـلال تواصلـه مـع رفاقـه الذيـن شاركُــــوا بالنصـر ولم تكتـب لهـم الشهـادة , وأن هذه المعركـة كانـت الرجـاء الذي ينتظرونـه للثـأر وإلحـاق الهـزيمة المُدوِّيـة للعــدو الصهيونـي .
وعندمـا سألتـه عن دور الفـدائيين في المعركـة الكـرامة , نظـر إلـي بحـدة , وقـال يا ولـدي إن الفـدائيين كـانوا يشكـلون النقـاط العميـاء في المحـاور الأماميـة بالنسبة للعـدو , وكانـوا ينقضُّـون كالأسـود على آليـات العـدو ويدمـرون مـا يسـتطيعون بعمليـات فدائيـة واستشهـادية وضمـن تناغـم وتناسـق ودور تكاملـي للجيـش العربـي .
وقـال لـي والـدي أن الخـطة التعبَوِيَّـة العسكريـة الاستراتيجيـة والتكتيكيـة لـدى الجيـش العربـي كانـت تهـدف لصـد هجـوم العـدو وتدميـر آلياتـه وإجبـاره على الفـرار وحمايـة مواقـع الفـدائيين علـى حـدٍ سـواء .
يـا ولـدي .. إن الجيـش العربـي بكافـة قطاعاتـه قـام بواجبـه أمـام الله والوطـن واسـتحق النصـر المُـؤزَّر ... وفي هـذه المعركـة اختلـط الـدم وتـوحدت الصـفوف.
وكـان النصـر للجميـع .. الجميـع شـارك في النصـر ... ونحـن لا نقـارن بيـن الجيـش بكامـل عتـاده مع الفـدائيين ومـا توفـر لديهـم من أسـلحة ....
يا ولـدي إن الملائكـة وهـي تستقبـل أرواح الشـهداء الذيـن قضـوا فـي معركـة الكـرامـة لـم تنظـر إلـى ألـوان ملابسهـم .. وكـان للشهـداء نفـس الرائحـة الزكيـة لدمائهـم.
إننـي على يقـيـن تـام أنـه لـو قُـدِّر لوالـدي أن يسمـع الهرطقـات التـي صـدرت من بعـض الذيـن حاولــوا إمعـان خناجرهـم في خاصـرة الوطـن .. ونفـث سـموم الفُرقـة بيـن مكونـات الشـعب الواحـد .... فلـن يتوانـى لحظـةً من أن يستـل باكـورته ويُجيـد عليهـم بمـا يستحقـون وحتـى تحمَرَّ جوانبهـم , ليعرفـوا أن الله حـق ... وإعـادة تربيتهـم الوطنيـة وعلى مـا تربـى عليـه أهلنـا الطيبيـن والرجـال الرجـال ... الذيـن قدمـوا أرواحهـم رخيصـة فـداءًا لله والوطـن في ميـدان المعركـة .... وليسـو من الذيـن يبيعـون الوطنيـات ويتابعـون القتـال من خـلال اسـتماعهـم للمذيـاع .