الحالة الأردنية.. من وحي الواقع
لقد أثارت الأحداث الأخيرة التي دارت حول الأخ غير الشقيق للملك عبدالله الثاني، الأمير حمزة، وابلاً من التقارير الإعلامية السلبية حول الأردن. فلطالما شكلت قصص مؤامرات ودسائس القصور أخباراً مثيرة. إلا أن تصوير الأردن حصرياً كبلد ينتشر فيه الفساد وعجز الإدارة لهو أمر يجافي الواقع. وقد كان مؤسفاً، تسرّع بعض وسائل الإعلام بتبني الخطاب الشعبوي في التسجيلات المُسربة للأمير، وإهمال الموضوعية والتقارير المبنية على الحقائق.
ودعونا ننظر في سيناريو افتراضي… فماذا لو تعرضت الولايات المتحدة وهي أغنى وأقوى دول العالم، لعدم استقرار وحروب أهلية على امتداد حدودها مع المكسيك وكندا؟ وتخيلوا لو تقطعت طرق التجارة عبرها مع هذه الدول ودول أخرى. وتخيلوا أيضاً انقطاع إمداداتها من الطاقة التي تغذي شبكتها الكهربائية الوطنية. وماذا لو وجدت نفسها في غضون بضع سنين وقد نزح إليها أكثر من 30 مليون لاجئ؟ وتخيلوا لو لم يبعد مركز الإرهاب عنها إلا عشرات الأميال، وليس آلاف الأميال. تخيلوا لو وقعت هذه السلسلة من الأحداث بين فكي أزمة مالية عالمية ووباء عالمي. فما الحال الذي يمكن أن يكون عليه المزاج العام في الولايات المتحدة اليوم؟
هذا السيناريو الخيالي هو واقع الحال في الأردن، مع اختلاف جوهري، فقد يكون الأردن من أفقر دول العالم بالموارد الطبيعية. ويقبع وسط كتلة من اليابسة بلا أي منفذ بحري يُذكر، ويستورد 98٪ من احتياجاته من الطاقة. كما أنه من أكثر الدول التي تعاني من شح المياه في العالم، فالأردن خامس أفقر دولة مائياً حسب تصنيف معهد الموارد العالمية. كما أنه يقع في أحد أخطر الأقاليم في العالم. لذلك من المنصف القول، أن لا دولة أخرى في العالم في عصرنا الحديث مرت بهذا الكم من الصدمات الخارجية خلال العقد الماضي، بلا ذنب لها.
ولطالما عُرف عن الأردن عدم انحيازه أو تدخله في سياسات الدول المجاورة، فلم يُشارك في حروب بالوكالة أو تمويل سياسي أو غير ذلك. فالتزامه بالسلم والاستقرار الإقليمي والعالمي هو أمر لا جدال فيه، إلا أنه اضطر للتعامل مع الحرب الأهلية في سوريا، وتنظيم داعش الإرهابي عبر حدوده مع سوريا والعراق، إضافة إلى تقطع سبل تجارته الخارجية والانقطاع المفاجئ للغاز المصري الذي كان يزود شبكته الكهربائية بأكثر من 80٪ من احتياجاتها من الطاقة.
في غضون سنوات قليلة، استقبل الأردن حوالي 1.3 مليون لاجئ سوري وبما يشكل أكثر من 10٪ من عدد سكانه. قارنوا ذلك بالخمسة عشر الفا من المهاجرين وهو الحد الذي سمحت الولايات المتحدة باستقبالهم ويشكلون ما لا يتجاوز الـ 0.005٪ من عدد سكانها. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يفتح فيها الأردن أبوابه للاجئين، فيعيش اليوم فيه حوالي 2.2 مليون لاجئ فلسطيني، وعشرات الآلاف من اللاجئين العراقيين واليمنيين والليبيين.
وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن كل ما سبق قد يبدو ذريعة لتفشي الفساد والترهل الإداري. لكن الحقائق تُشير إلى واقع مختلف تماماً.
فمنظمة الشفافية الدولية، المعيار الدولي للمقارنة بين الدول فيما يتعلق بالفساد، صنفت الأردن في المرتبة الستين من أصل 180 دولة عام 2020 بمؤشر الفساد، ليتفوق في ذلك على دول منها المكسيك والصين والهند والبرازيل وتركيا ومجموعة أخرى من دول أكثر ثراء بالموارد. فإذا قمت حسبة بسيطة، ستجد أن أكثر من 80٪ من سكان العالم يعيشون في دول تفوق الأردن بنسب الفساد فيها.
فتفوقت دول مثل رواندا وبتسوانا والأردن على دول العالم النامي في جهودها للقضاء على الفساد. في عام 2005، أسس الأردن هيئة مكافحة الفساد وعمل منذ حينها على تعزيز استقلاليتها من خلال تشريعات متنوعة. كما عمل على تعزيز التشريعات الناظمة للشراكة بين القطاعين العام والخاص لضمان أكبر للشفافية والمحاسبة، إضافة الى تطوير الآلية الخاصة بالعطاءات والمشتريات الحكومية. وعندما تعرضت عملية التخاصية في الأردن للنقد، كما هو الحال في مبادرات شبيهة أخرى حول العالم، استجاب الملك عبدالله الثاني في عام 2014 بتشكيل هيئة عليا لمراجعة عملية وأثر التخاصية شارك في عضويتها شخصيات أردنية ودولية لها باع طويل وسجل ناصع بالنزاهة. وقد خلص التقرير إلى نقاط القوة والضعف في العملية، وهو منشور للعامة منذ العام 2014 على الموقع الإلكتروني لرئاسة الوزراء.
كما يحتل الأردن موقعاً متقدماً لبلد بحجمه في تقرير مؤشرات البنك الدولي للحوكمة، فلم يتفوّق على معدل نظرائه من دول الإقليم فحسب، لا بل حصل على نقاط أعلى من معدل التصنيف الخاص بالدول ذات الدخل المتوسط الأدنى، وتفوّق على معدل الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى ضمن مؤشرات الفاعلية الحكومية، وجودة التشريعات، وحكم القانون ومكافحة الفساد.
وعلى أرض الواقع، يتجلى ذلك في كيفية تعامل الأردن مع الانقطاع المفاجئ للغاز المصري في العام 2011. ففي حين تعاني دول مجاورة ذات موارد نفطية من انقطاعات في الطاقة الكهربائية، بذل الأردن جهوداً مضنية لإبقاء الأنوار مضاءة، على الرغم من ارتفاع ثمن ذلك والذي يقدر بـ 20٪ من ناتجه المحلي الإجمالي. وبإمكانكم النظر الى المثال الأقرب في تعامل الأردن مع وباء كوفيد-19. فبينما لم تكن الاستجابة مثالية، إلا أن الأردن من ضمن مجموعة صغيرة من الدول التي تتصدر العالم النامي بعدد الفحوصات المخبرية، وينشر الأردن تعداده اليومي للإصابات بشفافية، كما زاد خلال أشهر عدد الأسرّة الطبية المتاحة بثلاثة أضعاف عددها قبل الأزمة، وباشر بشكل مبكر حملات التطعيم الوطنية. ونتيجة لذلك، ورغم تعرض النظام الصحي في الأردن للضغط إلا أنه لم ينهار.
عُرف عن الأردن عدم انحيازه أو تدخله في سياسات الدول المجاورة، فلم يُشارك في حروب بالوكالة أو تمويل سياسي أو غير ذلك. فالتزامه بالسلم والاستقرار الإقليمي والعالمي هو أمر لا جدال فيه.
كما نفذ الأردن خلال السنوات القليلة الماضية أجندة طموحة لتصحيح أوضاع المالية العامة، وكنتيجة لذلك ـ على مستوى الحكومة العامة والذي هو المعيار الدولي للمقارنات بين الدول ـ تراجع العجز المالي السنوي من ذروته عند 8.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 2013 إلى أقل من 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2015، وهذه المعلومات متاحة في تقارير التصنيفات الائتمانية للأردن على غرار تقارير S&P. وبالرغم من أن هذه التقارير ليست مثالية، إلا أنها تعطي تفصيلاً موضوعياً للتحديات الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها الأردن ضمن سياق إقليمي.
وقد يصعب على الباحث المبتدئ استيعاب الصعوبات الكاملة التي يواجهها الأردن. فعلى مدار عقود، شكلت موجات الهجرة المستمرة واللاجئين تحدياً بالنسبة للأردن، وولدت ضغطاً هائلاً على الموارد الطبيعية الشحيحة والاقتصاد والبنى التحتية للرعاية الصحية والتعليم وعلى قدرة الأردن على التخطيط. فاليوم يشكل اللاجئون ما نسبته 20٪ من السكان، مما يجعل الأردن ثاني أكبر دولة مستضيفة للاجئين عالمياً مقارنة بعدد السكان. وعلى الرغم من كل ذلك، لم يتخل الأردن يوماً عن مسؤوليته الأخلاقية.
فتعامل الأردن مع أزمة اللاجئين الأخيرة جدير بالثناء. فحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: «إن تخفيض كلف الاستطباب للاجئين السوريين في الأردن لتوازي غير المؤمّنين صحياً من الأردنيين هي خطوة مهمة إلى الأمام وتظهر كرم الحكومة الأردنية تجاه اللاجئين». كما أشادت المفوضية بعدم اكتفاء الدولة الأردنية بمجرد «استضافة» اللاجئين، وإنما قيامها بدمجهم وتمكينهم: «وصل العدد الإجمالي لتصاريح العمل الممنوحة للاجئين السوريين في الأردن إلى حوالي 165 ألف تصريح، وبما يشكل 45٪ من عدد اللاجئين في سن العمل. فأصبح الأردن حسب المنتدى العالمي للاجئين الذي عقد مؤخراً في جنيف، في مصاف الدول في مجال توظيف اللاجئين».
وفي الوقت الذي سارع فيه الأردن تاريخياً لمد يد المساعدة للاجئين، فقد تخاذل المجتمع الدولي في دعم الدول المستضيفة للاجئين مثل الأردن. فحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: «رغم كل تلك الجهود، لم تغطي المساعدات الخارجية سوى 58٪ من احتياجات المفوضية في الأردن مع نهاية عام 2019».
وقد أشارت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا مؤخراً في نيسان 2021 إلى جهود الأردن: «ستمثل مساعدة المانحين القوية والواسعة والمناسبة من ناحية التوقيت لدعم الأجندة الطموحة للسلطات الأردنية، حاجة ملحة لمساعدتها على حماية حياة وسبل المعيشة اللازمة لمواطنيها والعدد الكبير من اللاجئين الذين تستضيفهم على أراضيها. وأود بشكل خاص الثناء على جهود الأردن في مجال التطعيم، حيث يقدم المطعوم لمواطنيه واللاجئين على حد سواء، والتأكيد على الحاجة لدعم السلطات الأردنية في هذا الجهد الحيوي».
وفي ضوء ما سبق، هل يشعر الأردنيون بالرضا تجاه أداء حكوماتهم المتعاقبة في قضايا رئيسية مثل مكافحة الفساد والحوكمة؟ سيكون الجواب بالنفي. فمن الطبيعي ومن المرحب به، أن يتوقع المواطنون المزيد من حكوماتهم. إلا أن الاعتقاد السائد لدى المواطنين بتفشي الفساد لا يقتصر على الأردن لوحدها. فتشير نتائج استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب العالمية في عام 2015 الى اعتقاد أكثر من 75٪ من الأمريكيين و74٪ من الإسرائيليين و84٪ من الإسبانيين بتفشي الفساد في حكوماتهم. وتشير إحصائيات المؤسسة نفسها في دراسة أجرتها في العام 2013 إلى أن غالبية السكان في 108 دول من أصل 129 دولة يشعرون أن الفساد يتفشى في حكوماتهم. وتشير بيانات المؤسسة الى عدم وجود أي تحسن ملحوظ على المستوى العالمي في السنوات الأخيرة.
من الواضح أنه على الحكومات في مختلف دول العالم ومن ضمنها الأردن، بذل جهود أكبر في مجال نيل ثقة مواطنيها، إلا أن ذلك ينطبق على وسائل الاعلام أيضا. فتشير دراسة أجرتها مؤسسة غالوب في عام 2020 إلى أن أكثر من 60٪ من الأمريكيين لا يثقون أو لديهم ثقة قليلة بقدرة وسائل الاعلام على سرد الحقائق والمعلومات بدقة وإنصاف. وهو ما أكده مؤشر إيدلمان السنوي للثقة، والذي أشار الى اعتقاد أكثر من 56٪ من الأمريكيين أن الإعلاميين والصحافيين يتعمدون تضليل الجمهور من خلال تقديم معلومات خاطئة أو مبالغ بها. ويعتقد 59٪ أيضا أن معظم المؤسسات الإعلامية تهتم أكثر بدعم أيديولوجيات ومواقف سياسية وتقدمها على إطلاع الجمهور. والوضع في المملكة المتحدة ليس أفضل حالا فلا تتجاوز ثقة المواطنين بالإعلام الـ 28٪.
من الطبيعي جداً أن يركز المواطن على الأوضاع الداخلية في بلده، إلا أن هناك توقعاً أن نقاد الإعلام الدولي سيسخّرون مواردهم الواسعة لتحليل وتفسير ما يسمعونه من معلومات من دولة محددة بموضوعية ووضعها ضمن إطار دولي. كما جرى إغفال الصورة الجيوسياسية لدرجة كبيرة. فلا يخفى على أحد أن مواقف الأردن السياسية خلال السنوات القليلة الماضية تجاه الثوابت الإقليمية أصبحت لا تحظى بشعبية لدى البعض من الذين يحاولون تقويض وصاية الأردن التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. ومع ذلك يستمر الأردن بتقديم مبادئه على السياسة.
إن الاستخفاف بالإنجازات الأردنية على الرغم من التحديات الجمة التي يواجهها الأردن حتى يومنا هذا، يبدد الآمال لدى الدول النامية في أن تتقدم. ولا يزال أمامنا الكثير من العمل في مجالات عدة منها الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي والتعليم والرعاية الصحية وغيرها. إلا أنه على الإعلام الدولي أيضاً القيام بدوره في الحديث عن الحالة الأردنية بموضوعية ودون تحيز. ومن حسن حظنا اليوم، أن الحقائق على بعد كبسة زر واحدة في محركات البحث على حواسيبنا.
وزير إعلام وعضو في مجلس الأعيان الأردني