في ظل مئوية الدولة حينما يتمثل الأردن قصيدة شعر تعانق السماء
مجدي التل- "أردن أرض العزم أغنية الظبى، نبت السيوف وحد سيفك ما نبا، في حجم بعض الورد إلا إنه، لك شوكة ردت إلى الشرق الصـبا"؛ عبارات تموج بها الافئدة في وصف الشاعر اللبناني سعيد عقل بقصيدته "اردن ارض العزم"، هياما بالوطن الاردني، الاردن الذي الهم شعراء اردنيين وعربا للتغني به ومن اجله بأجمل القصائد التي ترتقي إلى مصاف الوجد، ليتمثل الاردن قصيدة شعر تعانق السماء.
وفي ظل مئوية الدولة حين تتعانق وتتفيء المناسبات الاعز اليوم الأحد؛ فذكرى معركة الكرامة الخالدة التي سطر فيها بواسل قواتنا المسلحة-الجيش العربي أنبل معاني البطولة والرجولة والشهامة والفداء، لتحنو على "يوم الأم".. أم الشهيد وزوجه وابنته، تضمهم في بوتقة القصيد والشعر في يومه العالمي .. والشعر الذي حظي باهتمام ورعاية في بلاط المغفور له بأذن الله الشاعر الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، مَثل منطلق التأسيس للشروع في بناء النهضة التعليمية والادبية والعلمية في دولة فتية تنفض ما خلفته عاتيات الايام متجاوزة بهمة "الأُلَى رفَضُوا ولم تغمدْ بكفِّهمُ الشبَا"، للواقع ومحدودية الامكانيات، لتغدوا مثالا يحتذى. والشعر في يومه العالمي بحسب شعراء ومثقفين وأكاديميين لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، أسهم بحمل رسالة الاردن منذ بواكير التأسيس، وسطر بحروفه التي تنهل من نور الحق لتتغنى بمسيرة وطن وشواهد فعله وجماليات مواقعه، دون انفصام عن تاريخ وقضايا أمته ورسالة نهضتها. ولفت الشاعر والباحث الدكتور محمد عطيات لـ(بترا) إلى أن حركة الشعر في الاردن ولدت في زمن الامارة لان المغفور له بإذن الله الملك المؤسس (الامير آنذاك) عبدالله بن الحسين كان شاعرا ويدعم حركة الشعر في بلاطه، مشيرا إلى العديد من المساجلات الشعرية بينه وبين الشعراء، بحيث انه قاد حركة أدبية تمخض عنها الاهتمام بالأدب مما أسهم بأن تنشئ الدولة الاردنية الفتية المدارس والتوسع بها.
وبحسبه فإن العديد من الدراسات تشير إلى أن شرقي الاردن قبل الحرب العالمية الاولى (1914- 1918)، لم يكن فيه شعراء يكتبون بالشعر الفصيح لارتباط الشعر بالتعليم وإجادة اللغة العربية، ولم يكن في شرقي الاردن تعليم للمرحلة الثانوية، فقد كان عدد المدارس التي في المدن الاردنية اربع مدارس ابتدائية موزعة في عجلون والسلط والكرك ومعان وكانت تعلم باللغة التركية.
وقال إن اول مدرسة ثانوية انشئت في الاردن هي مدرسة السلط الثانوية التي خرجت اول فوج لها في السنة الدراسية (1926-1927) وقد كان المعلمون الذين يدرسون في هذه المدرسة صفوة من المعلمين اللبنانيين والسوريين، مشيرا إلى أن الاردن الذي يحمل رسالة النهضة العربية أحتضن العديد من الشعراء والمثقفين والمعلمين السوريين واللبنانيين الذين تداعوا اليه ومنهم من اللبنانيين الشعراء محمد علي الحوماني ونديم الملاح وفؤاد الخطيب (شاعر الثورة العربية الكبرى) بالإضافة إلى سعيد البحرة وتيسير ظبيان وعشرات المدرسين الذين استقبلتهم مدرسة السلط التي أنشئت في عهد الامارة.
ووفقا للدكتور عطيات قامت هذه الصفوة بتعليم أبناء الاردن في تلك الحقبة من القرن الماضي معنى الشعر وأساليب نظمه، مشيرا إلى أن ديواني شعر تمت طباعتهما في عهد الامارة هما للشاعر حسني زيد الكيلاني الاول بعنوان "هياكل الحب" عام 1939 والثاني "أطياف واغاريد" عام 1946.
واستعرض شعراء الثلاثينيات ممن كانوا طلاب في مدرسة السلط ومنهم عبدالمجيد السالم الحياري وعبدالفتاح الحديدي وابراهيم المبيضين وسليمان المشيني ومصطفى السكران، لافتا إلى أن مصطفى وهبي التل (عرار) الذي تلقى تعليمه الابتدائي في إربد، والثانوي في مدرسة عنبر بدمشق عام 1912، شكل ظاهرة شعرية ناضجة وامتلك أدوات التعبير ومشروعه الشعري الخاص وكان صبحي ابو غنيمة الذي شغله الطب عن الشعر من شعراء عهد الامارة. ولفت إلى أن الوحدة بين الضفتين في عام 1950 أسهمت بشكل كبير في ازدهار حركة الشعر لاسيما أن حركة الشعر في فلسطين كانت مزدهرة قبل النكبة، مشيرا إلى بروز أسماء في تلك المرحلة ومنهم الشعراء فدوى طوقان وسلمى الخضرا الجيوسي وامين شنار وعبد الرحيم عمر وايوب طه وتيسير السبول وحسني فريز وجميل علوش وحسين خريس وحيدر محمود وخالد نصرة وخليل زقطان ورجا سمرين ورشيد زيد ومصطفى زيد ورفعت الصليبي ويوسف العظم وصبحي القطب وعزالدين مناصرة وغيرهم. أما الناقد والاكاديمي الدكتور عماد الضمور قال "ونحن نحتفي بمئوية التأسيس للدولة الأردنية، فإننا لا بدّ لنا من تمثّل أثرها في الحركة الشعرية الأردنية، هذه الحركة التي ظهرت مواكبة للأحداث السياسة والتاريخية التي مرّت فيها الأمة".
ولفت الدكتور الضمور إلى أن شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار) يظهر شاعرًا مركزيًا في الخطاب الشعري المعاصر، إذ يحتلّ مكانة مهمة في القصيدة الأردنيّة المعاصرة؛ وذلك لما يمثله من تجربة وطنيّة متميّزة على الساحة الأردنيّة منذ نشأة الإمارة، وحتى وقتنا الحاضر، اكتسب من خلالها خصوصية متمرّدة على الظلم بأنواعه، وأغنى الشعر بمفردات المكان الأردني، فكانت جغرافيا الوطن معجماً لشعره، ودليلاً صادقاً على عمق الانتماء للوطن.
وإذا كان عرار شاعراً إشكالياً في حياته وشعره، جذب إليه النقاد والدارسين للكشف عن تجربته الإبداعية، ومنهجه الفكري، بحسب الدكتور الضمور، فإن حضوره بعد وفاته كان لائقاً بحياته الحافلة بالأحداث الوطنيّة، والفكريّة، إذ أصبح مُخاطباً يستدعيه الشعراء في أحلك الأوقات، كما في قصائد الشعراء: حيدر محمود، وحبيب الزيودي، وعبدالرحيم عمر، وخالد محادين ومحمود فضيل التل، وغيرهم، من الذين اقتفوا أثره الشعري في الدفاع عن الوطن، وترسيخ الانتماء لترابه الطاهر، والدفاع عن ما يواجه الأمة العربية من أخطار .
ووفقا للدكتور الضمور يعدّ مصطفى وهبي التل صاحب الأثر الأكبر في الشعر الأردني المعاصر، وبخاصة فيما بثه من روح وطنيّة، تجسّدت في الموضوعات الشعريّة التي تتناول جوانب الحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة التي جاءت انطلاقاً من رؤاه الشعريّة التي تميّز بها إلى الحدّ الذي جعلنا نشعر مدى التزامه الصادق تجاه الإنسان والمجتمع والوطن.
ولفت إلى ما يحفل به شعر محمود فضيل التل باستدعاء الموروث العراري فكراً ولفظاً، لما يمثله عرار من مكانة متميّزة في الحركة الشعريّة في الأردن، إذ يضمّن أشعاره بعض أقوال عرار، إذ يقول: يا أردنيات سفح التل مـرقدهُ فـإن نسجتنّها فانسجن لي كفني يا أردنيات لا بحر يؤمّلني موجي تهـالك لا يقـوى على سـفني.
وأوضح ما تحمله عبارة (يا أردنيات) من حس وطني، ينبض بالانتماء إلى تراب الوطن، وصرخة قوية تنبعث من مرقد عرار؛ لتكون لازمة شعريّة، يُخصّب بها شعره. وقال "لعلّ الحضور العراري واضح في شعر حيدر محمود الذي لا يلبث أن يتراجع أمام الرؤية الشعريّة التي يبثها الشاعر في النص بدلالاته الجديدة، ممّا يسمح للمتلقي إعادة تأويل النص، واكتناه جماليات الإيحاء الشعري الكامن وراء الخطاب السردي، كما في قصيدة "خيمة الأمة"، حيث يخاطب زائري عمّان، مبرزاً دور المدينة القومي: أهلاً بكُمْ، في كروم الوعدِ(حاضرها) وفي حقول النّدى، والسّعْد (ماضيها) أهلاً بكم، في روابيها التي جَمَعتْ شملَ العروبةِ، من شتّى نواحيها.
ولفت إلى تغني حبيب الزيودي بأبناء الوطن الأوفياء الصادقين، الذين أصبحت بطولاتهم راسخة في الوجدان، يضيئون الوطن بأفعالهم، ويحفظون عهودهم وقت المحن، إذ يقول:أيها الأوفياء الحافظون على عهوده البيض آتيها وماضيهاكنتم قناديله في لـيله فإذا مادت به الأرض أصبحتم رواسيهالكم أزفّ أناشيدي وإن بها من حبـكم عبقا بالنور يذكيـها.
ويختم الدكتور الضمور "لذلك فإن علاقة الشاعر بوطنه علاقة عفويّة، تحمل معاني الحبّ الصافي، وتنبض بدفء الارتباط به،إذ نبع الشعراء في علاقتهم بالوطن من رسالة الالتزام في الشعر، ومن حبّ وطني سكن جوارحهم، وألهم وجدانهم بأجمل الأشعار، فكان الإبداع في التشكيل الفني لأشعارهم الوطنية، ممّا جعل من أشعارهم طاقة محرّكة، ترفض كلّ المظاهر السلبية، وتعكس وظيفة الشعر الخالدة". من جهته قال الشاعر والناقد والاكاديمي الدكتور راشد عيسى في قرأته للمئوية وآفاق الشعر المغنى، إن الشعر ملمح حضاري لدى كل أمة، وأضواء إبداعية في كل بلد، والغناء وكذلك صورة من صور الآفاق العليا للتمدن على غرار الشعر والغناء في العصر العباسي الذهبي.
وتابع الدكتور عيسى "من هنا أسهم الشعر المغنّى في الأردن منذ تأسيس الدولة في تنمية المسار الإعلامي المواكب لهذا التأسيس الوطني الذي عزّز الوجدان الشعبي العام تجاه نهضة الوطن، وآزر برامج البناء المجتمعي في خصوصية الأردنية، ذلك لأن الشعر المغنّى يوثق معاني الانتماء بأسلوب سعيد"، لافتا إلى أن الإذاعة الأردنية نهضت بهذه المهمة منذ تأسيس أول دارٍ لها ثم تلاها التلفزيون.
وقال إنه في مجال تعزيز الأيقونة الوطنية العليا برز السلام الملكي حاضرًا على الألسنة في جميع قنوات الاتصال الإعلامي، وجميع المناسبات الاحتفالية من خلال ترديده في كل الافتتاحيات الرسمية والشعبية، منوها بترافق ازدهار السلام الملكي مع النشيد الوطني وهو الرمز الأعلى للوطن، هذا النشيد الذي كتبه عبد المنعم الرفاعي، وأصبح حاضرًا في الذاكرة اليومية الأردنية ولا سيّما لدى الناشئة الذين هم أول فئات الشعب استحقاقًا لحفظه وترديده في الاصطفاف الصباحي في المدارس كأنه نوع من الإفطار الوجداني في كل صباح، أو كأنه تهيئة نفسية لتقبّل التعليم ولمحبة البلاد والمليك ومطلعه: "يا مليك العربِ، لك من خير نبي، شرف في النسب".
وتابع "انه يلي هذا النشيد مجموعة من الأناشيد الوطنية التي كانت تجمع بين ما هو أردني خاص وما هو عربي قومي عام يلامس جراح الأمة كفلسطين والجزائر مثلًا:"دمتَ يا شبلَ الحسينُ، قائد الجيش الأبيّ، وأرثًا للنهضتين، حصنَ جيش يعربيّ..."وقال انه على صعيد تعزيز الجيش العربي انطلقت الإذاعة الأردنية بالعديد من الأشعار المغناة التي تجذّر روح الفداء والمحبة للجيش العربي الباسل على غرار:جيشنا يا جيشنــا صانــــك الله لنــــــاأو أغنية:يا جيشنا يا عربي يا درع كل العربِلك انتسبنا كلُّنـــــا أكرم به من نسب.
وأضاف ان الشعر المغنى كان مواكبًا لتنامي المحبة في بعدها القومي الكبير، ومع مسيرة النماء الوطني واتساع سمعة الإعلام الأردني إذاعيا وتلفزيونيًا، توالى الشعر المغنى في الحضور محليًّا وعربيًا، فبرزت قصائد حيدر محمود في عمان التي نمت نموًّا سريعًا وصارت مثالًا للمدينة العربية النظيفة التي تحمل صفتي الأصالة والحداثة، فغنت نجاة الصغيرة إحدى قصائد حيدر في عمان:أرخت عمان جدائلها فوق الكتفينْفاعتزّ المجد وقبلّها بين العينينبارك يا مجد منازلها والأحباباوازرع بالورد مداخلها بابا بابا.
وأشار إلى أن مشاهير الشعراء العرب شاركوا في التغني بالأردن مشاركة متميزة على غرار قصيدة الشاعر اللبناني سعيد عقل "أردُنْ أرض العزم أغنية الظُّبا"، والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي قدّم للأردن قصيدة خالدة أبرز فيها محامد ومزايا المجد لدى المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال، وغنتها المطربة المغربية صوفيا صادق ومنها: يا سيّدي أسعف فمي ليقولافي عيد مولدك الجميل جميلاأسعف فمي يطلعك حرًا ناطقًاعسلًا وليس مداهنًا معسولايا أيها الملك الأجل مكانةبين الملوك ويا أعز قبيلا.
وأشار إلى ما قدّمته المطربة اللبنانية ماجدة الرومي أجمل أغانيها التي تغنت بالأردن:أعود وكلي حنين أعودلدار الأحبةِ والقلبُ عيدُوصوتي يعانق كل هتافوليس لبحر اشتياقي حدودُ.
ويخلص الدكتور عيسى إلى انه يتبدى لنا أن الشعر المغنى واكب مسيرة المئوية للدولة الأردنية محليًّا وعربيًا في صورة وطنية وجدانية زاهرة خالدة، الأمر الذي يؤكد أن الشعر سيّد المراحل وحارسها والشاهد على مساراتها الصاعدة جنبًا إلى جنب مع الوجدان الشعبي ومع الخطى الوطنية البناءة في جميع المجالات. أجل، لعبت القصيدة المغناة دورًا وطنيًا حضاريًا سيبقى لامعًا في السماء الأردنية عبر الأجيال.