شينجيانغ ونينشغيا.. جِنان واسعة على أرض الصين
الأكاديمي مروان سوداح
فور عودتي إلى الوطن بعد إنهاء دراستي الجامعية الأولى، في كلية الصحافة لجامعة لينينغراد الحكومية السوفييتية (جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية الروسية – حاليًا)، في عام 1985، شَددّتُ رحالي صوب الصين، سويًا مع زوجتي الروسية يلينا، لتتكاثر بعدها زياراتي المتلاحقة إليها سنةً بعد آخرى بدعوات حكومية رسمية، وفي أخرى بخطابات رفاقية راقية من قيادة الحزب الشيوعي الصيني الحليف، الذي لا يُخطئ بالفصل في علاقاته الإستراتيجية بين الرفاق والأصدقاء من الأعداء، والمعارف من الخصوم، إذ أن الرفاق الحزبيين يتمتعون بحاسةٍ متطورة جدًا في فصل الغث من السمين، والصالح من الطالح، فهم يَسبرون أغوار هؤلاء بعمق، ابتداء من اللحظة الأولى لتعارفهم وإياهم، ويستطلعون وجهات نظرهم وصولًا إلى اتخاذ قرار وموقف حِيالهم.. هل هم مُقرّبون، أم مجرد عناصر تائهة تبحث عن مواقع بمغانم وقتية و/أو دائمية!
في السنوات الأولى لزياراتي إلى ربوع الصين سُعدتُ بالمناطق الإسلامية أكثر من غيرها. هنالك دلفت وبكل حرية إلى مختلف المساجد ومنها تلك العاملة في العاصمة بكين، والتقيت رجال الدين المُسلمين بخاصةٍ والعائلات المُسلمة في بيوتها في شينجيانغ الويغورية ونينغشيا، وتحدثت مع طلبة وأساتذة و"أستاذات" الجامعات والمعاهد العليا، ضمنها الإسلامية وتلك التي تقوم بإعداد رجال الدين وتدريسهم العربية. في الصين يعملون على تعليم وتخريج نوابغة يتقنون العربية، ويُعرّفون الطلبة والتلاميذ والأطفال صغار السّن عليها وعلى العادات والتقاليد العربية، لتغدو جزءًا من يومياتهم، فيتم التجسير العميق بين الأمتين الصينية والعربية.
في الحقيقة، أحببت حُبًا جَمًا تلك المناطق الجنائنية الواسعة والشاسعة التي تتمتع بملامح شرقية وعربية طاغية في كل زواياها ونقاطها، وفي طبيعة وأحاديث وشِيمِ وحَركات وكلمات جميع ناسها، ولاحظت في شوارعها الكثير من اللافتات الإرشادية باللغة العربية للزائرين والسياح والطلبة وغيرهم، فهناك أعداد ضخمة من العرب يعيشون ويعملون ويدرسون أو ينشطون بسلامٍ في الإشراف على المساهمات العربية والعربية الإسلامية في تلكم المناطق القومية الصينية، إذ أن الدول العربية وبخاصة الغنية منها؛ كما شهدت هناك؛ تؤسِس المزيد المتواصل من المشاريع الإسلامية، ومنها الترفيهية ذات الطابع الإسلامي المحض، وأخرى خاصة بالأطفال المسلمين الأجانب، لأجل جعل حياتهم في تلك الربوع الصينية ممتعة ونافعة للعلاقات الشعبية والرسمية والتاريخية والحضارية والتعليمية والعلمية والثقافية العربية الصينية.
أزور في تلك المناطق الصينية الإسلامية ما لم يزره إنسان، وأرى وأتعرف على مواقع وأشخاص لم يعرفهم أحد مِن قَبلِي، وربما لن يعرفهم من بعدي أيضًا، وكلما أصل إلى تلك المناطق أعود لاستعراض تلك الفبركات والغثبرات التي، وللأسف، تطلقها وسائل إعلام أجنبية وعربية، وإلى جانبها بعض السياسيين الدوليين لتشويه الواقع في المناطق الإسلامية الصينية وفي تلك التي تسكنها طوائف ومجموعات مُتَديّنة تتمتع بكامل الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن صيني آخر.
في تصريحاتي للتلفزيون الصيني ووكالة أنباء شينخوا والتلفزيون والإعلام الصيني وعشرات الصحفيين الصينيين الذين يتحلقون عادة من حولي لصيد تصريحاتي المتلاحقة، كشفت زيف الحملات الصاخبة الموجهة ضد الصين، فهذه قد باتت "سيمفونية مُستَهلَكة" للنيل من منطقتي شينجيانغ ونينغشيا المسالمتين والقوميات الصينية التي تدين بالإسلام منذ عهود اللقاء العربي الصيني الأول على جانبي طريق الحرير، الذي غدا إشارة عميقة وواضحة المحتوى لضرورات تشييد علاقات عربية صينية أكثر تجذرًا وثباتًا وانتاجيةً للأمتين بكل ما هو حسنٌ، فالدم الصيني والدم العربي واحد منذ اختلاط الأمتين اللتين أنتجتا قومية واحدة، لنطلق عليها تحببًا تسمية "عربصين"؛ التي تُسمّىَ صِيِنيًا منذ زمن بعيد سحيق بـِ"سكان الجبال" الذين صارت ملامح غالبيتهم صينية بسبب الزواجات المختلطة منذ ألفي سنة ونيف، لكن دمهم وعاداتهم وتقاليدهم عربية. شخصيًا، أرفض رفضًا كاملًا أن يتم تشويه سُمعتهم، فهؤلاء هم جزء أساسي وعاطفي ووجداني وبالدم ("مِننِّا نحن") العرب في الوطن العربي، وواجبنا صَونهم وتقديمهم للعالم بأبهى صورة كما هم واقعًا وفي يومياتهم وأحلامهم.
فيا ليت القيادة الصينية تأذن لي بالاقامة بقية حياتي، التي لم يبق منها الكثير، مع هؤلاء "العربصينيين"، والعمل وإيّاهم ومعهم في جِنانهم الخلابة والحلوة.
*متخصص بالشؤون الصينية والأردنية الصينية.