يلينا نيدوغينا تكتب: في ثَغر الأردن الباسم..
في ثَغر الأردن الباسم..
يلينا نيدوغينا*
يوم السبت الماضي، تمكّنا من زيارة العقبة المُنعشة وثغرها البحري الباسم. وبالرغم من أن الرحلة من عمّان نحو أقصى الجنوب، حيث تقوم المدينة الساحلية الوحيدة، كانت طويلة ومُنهكة، إلا أن التجوال في عرض خليج العقبة على متن قارب كانت حُلماً وردياً، وقد تحقّق لمجموعتنا من السيدات الناطقات بالروسية لنادي (ناديجدا) لصديقات الثقافة الروسية في المملكة. وبغض النظر عن أن مسير القارب استمر لفترة قصيرة جداً ضمن برنامج (أردننا جنة.. أردننا بخير)، إلا أن الحُلم تَحقّق، ليكون إضافة نوعية لرحلاتنا الأسبوعية المتواصلة في أرجاء البلاد، للاستزادة من تاريخها العريق وحضارتها التليدة.
مدينة (آيلة) القديمة، اسم معروف في العالمين القديم والمعاصر، الشرقي والغربي على حد سواء، وهو ضارب جذوره في أزمان سحيقة، إذ يرجع عهده إلى ما يقرب من سنة 4000 ق.م، لكونه تعبير عن مركز سكاني يتميز بموقع إستراتيجي وقريب من مناجم النحاس، فقد كانت آيلة مركزاً إقليمياً لإنتاج النحاس وتجارته خلال العصر النحاسي (إينيو ليثيك)، وهي فترة تقع بين العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. أما اسم (العقبة) الحالي، فقد ظهر في عهود متأخرة من القرون الوسطى. شهرة العقبة تتأتى كذلك من موقعها الاستراتيجي في أعلى شمال شرق خليج العقبة، المتفرع من البحر الأحمر، والذي بدوره يتوسط الطرق التجارية بين قارتي آسيا وإفريقيا ويُفضي عبر قناة السويس إلى أوروبا. كل ذلك جعل من العقبة ومنفذها البحري منطقة مفتاحية عبر آلاف السنين، ولهذا بالذات أيضاً سلكت عبرها قوافل التجارة العريقة من الصين الامبرطورية، وسار في مساراتها أغنى أغنياء الصين مِمَن نزلوا في نُزلِها، وانطلقوا منها عبر طريق المُلكوك نحو الشام في الشمال، ومن هناك بلغوا مختلف الأصقاع العَتِيقة.
خلال التوسع البيزنطي في جنوب المنطقة الأردنية، غدت (آيلة-العقبة) أبرشية مسيحية، لتتحول في وقت لاحق لأبرشية فخرية، وذلك عندما صار اسم المدينة (آيلة-إيلات)، المُشتق من اللغة الآرامية "العراقية البابلية" والذي اشتُق منه اسم (إيلات) في صفحات "العهد القديم" الذي يَحكي عن هجرة "العراقيين-العبيرو-العبرانيين-الآراميين"، مِمَن "عَبروا" (فأُطلق عليهم اسم "عبيرو" وعابرون) للصحراء والموانع المائية في طريق ترحالهم الطويل نحو الأردن وفلسطين-كنعان.
في مسيرنا إلى الميناء البحري الوحيد في المملكة حيث رَسَىَ قاربنا الصغير، شاهَدنا أعمالاً ترميمية ناشطة لانعاش سِمات ووجه قلعة قديمة عظيمة القسمات وقوية البُنيان، قائمة على الشاطىء الأزرق للمدينة، كانت لنا رغبة بالدخول إليها للتعرّف على صفحات تاريخها وقصص حِجارتها الضخمة اللافتة ألوانها الجذابة، لا سيّما ضمن برنامج الرحلة الذي أعدته لنا وزارة السياحة والآثار مشكورة، لكن الوقت المُعطَى لنا كان ضيقاً للغاية. ولذلك، خسرنا إمكانية مَعرفة عَمائر جديدة في أردن الأصالة الضارب جذوره في أعماق التاريخ.
بعدما طرحنا أسئلة على أصحاب الشأن، عَلِمنا أن القلعة بُنيت في الأصل كمقر للقوات الأوروبية الغازية، وقبل عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ وبالتحديد عام 1917 انسحبت القوات العثمانية من المدينة بعد قيام الجيش العربي الذي قاده الشريف الحسين بن علي رحمه الله، قائد الثورة العربية الكبرى، بالهجوم عليهم، وأصبحت القلعة بالتالي، واحدة من معاقل الثورة الرئيسية لتحرير الأردن، وبرغم أنها وقعت تحت حكم السلطة المصرية حتى سنة 1892، الإ أن القبائل المحلية التي انخرطت في هذه الثورة الكُبرى اتخذتها مقراً لقيادة الثورة، واعتمدتها منطلقاً لتحرير البقية الباقية لبلاد الشام من الحُكم العُثماني، الذي استمر نيف و400 عام.
يمكنني الكتابة كثيراً عن رحلتنا العقباوية، لكنني مُقيدة بنصٍ محدد في حجمه. ما أود أن اختم مقالتي هذه به، هو ضرورة إيلاء اهتمام أكبر لتنظيم دخول السياح إلى قارب العقبة السياحي وخروجهم منه، ليغدو الأمر حضارياً، كذلك الأمر بالنسبة لطعام الغداء الذي قُدّم لنا فقد كان "قليلاً هزيلاً جداً في حجمه وشكله.. بارداً ومُقشعرّاً كأننا نتناوله في يوم شتوي ثلجي وموقع قفر"، ناهيك عن رغيف صغير مرفق به، و"ملعقتين مُتصاغِرتين" من "سَلطة مَا"، والله المُوفق لجميعنا وجميعكم.
*كاتبة وإعلامية روسية متخصصة بالتاريخ والسياحة الأردنية، ورئيسة تحرير جريدة «الملحق الروسي»، الناطق باللغة الروسية في صحيفة «ذا ستار» سابقاً.
.............