نظرية المؤامرة.


د. عبدالله الطوالبة
يميل الإنسان بفطرته إلى الحكايات الوهمية المثيرة، رغم ما يتوافر له في عصر الفضاء المفتوح من معلومات في أي موضوع يريد أو مجال يتغيَّا البحث فيه. لكن المعلومات لا تنتظم بذاتها في مناهج التفكير العلمي التحليلي للظواهر والأحداث، بل البشر يفعلون ذلك شريطة امتلاك الأدوات العلمية الضرورية، وهو ما يستصعبه الكثيرون.
وفي أوقات الأزمات بشكل خاص، سياسية كانت أم اقتصادية، عادة ما تتبلور تساؤلات تبحث بإلحاح عن أجوبة. في المقابل، تبدأ التفاسير بالظهور والردود بالتداول. وأكثر ما يعنينا منها في سياق موصوعنا، تلك التي تمتح من أحكام مسبقة ومواقف رغائبية، لخدمة رؤى سياسية مصلحية أو إنطلاقاً من قناعات عَقَدية أيديولوجية.
أظننا في هذا التقديم، أظهرنا القارئ الكريم على المكونات الأولية للتفكير التآمري أو ما يُعرف ب "نظرية المؤامرة". وبالمناسبة، كل إنسان معرض في لحظات معينة للوقوع في شِباك هذا النوع من التفكير، وعلى وجه التحديد، عند مواجهة موقف غير مفهوم له.
تعبير نظرية المؤامرة حديث نسبياً، بدأ تداوله عام 1960، وأضيف إلى قاموس أكسفورد الشهير عام 1997. وفي التعريف يمكن القول تأسيساً على ما تقدم، أن نظرية المؤامرة هي نمط من التفكير المحمول على كسل ذهني، تتقاصر همته عن إعمال العقل والعلم في قراءة الأحداث والظواهر بالبحث والمقارنة والإستنتاج. يتجاهل هذا التفكير الأسباب الحقيقية للأحداث والوقائع، مثلما ينأى بنفسه عن قراءتها من الواقع بمعطياته وتحولاته. نحن إذن، أمام تفكير سلبي يقوم على أوهام ورؤى مختلقة، كونه يرى الحقيقة في مكان آخر ويتوهم امتلاكها. وتكمن خطورته في السيطرة على أصحابه، وجعلهم مع مضي الوقت فريسة للأوهام والخيالات، التي توصلهم إلى حدِّ الإنفصال عن الواقع. وفي الأحوال كلها، فإن التفكير المبني على نظرية المؤامرة يتنكر للحقيقة، عن قصد وإدراك أو عن جهل وقلة معرفة، غير آبه بأن مقارباته للأحداث والظواهر تبدو غارقة في الخيال والكوميديا المسلية والمسيئة في آن معاً. ومن الأمثلة الفاقعة، نختار من الماضي الفتنة الكبرى في تاريخنا السياسي، التي يؤرخ لها بمقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان. بمنظور التفكير التآمري، فإن مصدر الفتنة وسببها، اليهودي عبدالله بن سبأ، وليس الصراع على السلطة والنفوذ داخل قبيلة قريش، وبالتحديد بين فرعي بيت عبدمناف القرشي الرئيسين، أي الهاشميين والأمويين. ويلفت النظر، إصرار الفكر الديني بمختلف تياراته على التمسك بهذه الرواية حتى اليوم، رغم ما يباطنها من إساءة تاريخية بالغة لكبار الصحابة في صدر الإسلام، وللعرب والمسلمين عموماً. فماذا يعني تَمكُّن شخص واحد، هو عبدالله بن سبأ من التلاعب بمصير أُمة وإيقاع الفتنة بين قياداتها التاريخية والتسبب بسفك دماء أبنائها بأيديهم، سوى انه رجل خارق الذكاء مقارنة بالذين أوقع بهم؟!
ومن الحاضر، نشير إلى ما يُعرف ب"الربيع العربي"، بناء على ما يروجه أنصار نظرية المؤامرة. فالأحداث التي شهدتها دول عربية عدة اعتباراً من مطلع عام 2011، مؤامرة أميركية بالإستناد إلى نظرية "الفوضى الخلاَّقة"، التي تبنتها إدارة جورج بوش الإبن وبدأتها بإحتلال العراق عام 2003. ولنا أن نلاحظ عقم هذه القراءة، حيث يتراءى لنا أخطر تداعيات التفكير التآمري متمثلاً بتعطيل ملكة التفكير العلمي المنطقي. فالبحث عن مشكلات الواقع وأسباب أزماته، يُفترض أن ينطلق من الواقع ذاته وليس من خارجه. وعليه، فإن الاستبداد المتراكم عبر القرون في البلدان العربية وشقيقه الفساد، هما من قدح شرارة الحراكات الجماهيرية. فقد وصلت دولة الحاضر العربية ذروة أزماتها في العشرية الأولى من الألفية الثالثة. ومن آيات ذلك، اتساع جيوب الفقر، وارتفاع معدلات البطالة إلى نسب هي الأعلى في العالم، ناهيك بانسداد الآفاق أمام ملايين الشباب العربي خريجي الجامعات.
ولا ندري ما هي مصلحة أميركا في الإطاحة بحسني مبارك مثلاً، الذي قال عنه ذات يوم أحد قادة إسرائيل ربيبة العم سام، بأنه كنز استراتيجي لبني صهيون؟!
وليت المتيمين بنظرية المؤامرة، ينتبهون إلى أن قراءتهم للأحداث على هذا النحو تدمغ العرب بإساءة جارحة. فبمنظورهم هذا، العرب مُسيَّرون ولا يقدرون على الفعل. وبذلك، فإنهم غائبون عن الوعي وأدوات لتنفيذ مخططات القوى الكبرى التي تتلاعب بهم. فهل هذا ما يبتغي أنصار نظرية المؤامرة ايصالنا إليه؟! وهل يُعقل أن الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات مطالبين بالحرية والكرامة، عملاء للأجنبي؟!
الأحداث التاريخية لا تتكون بالصدفة ولا تنشأ في فراغ، بل هي نتيجة مقدمات وأسباب وعوامل ذاتية وموضوعية. فالحركة والتغيير والتطور، من ثوابت الحياة. وعليه، فإن الصراع والتناقض من طبائعها، ومنهما يولد التقدم والتجديد.
لقد انطلق علماء الاجتماع والسياسة منذ ابن خلدون وحتى اليوم، من الصراعات الاقتصادية والسياسية ومن التناقضات الإجتماعية، لتفسير نشوء الحضارات والدول ورقيها وبلوغها مراحل القوة ثم انهيار ها لتنشأ حضارات ودول جديدة. وكل واقع جديد، يحمل في طياته إمكانية تغييره عندما تتهيأ الظروف الذاتية والموضوعية، وفق قانون وحدة وصراع الأضداد. ولولا ذلك، لانتهت الحياة منذ زمن بعيد أو توقفت، في أحسن حالاتها، عند اكتشاف الزراعة.
إذن، التاريخ ليس مؤامرة وإن كان لا يخلو من حبك مؤامرات ضمن الصراعات بين الخصوم أو التأثير على الأحداث والتطورات في سياقاتها. والبون شاسع بين المؤامرة بهذا المعنى وبين تبني نظرية المؤامرة، كبنية تفكير وأسلوب قراءة للأحداث والظواهر.
ولتعلق نظرية المؤامرة بالبشر وظروفهم وأنماط تفكيرهم، فلا تخلو دولة في العالم من أنصار نمط التفكير هذا ومستهلكيه، وإن بتفاوت. أما في واقعنا العربي بشكل خاص، فإن فضاءها رحب لدرجة تحولها إلى اتجاه عام في التفكير. ولذلك ارتباط وثيق بالإستبداد، الذي لا يني يوظف نظرية المؤامرة لتبرير فشله وعجزه من جهة، ولضمان انصياع المحكومين وطاعتهم بزعم مواجهة المؤامرات الخارجية، من جهة ثانية.
ويتغذى التفكير التآمري في بيئاتنا العربية أصلاً من التخلف العلمي، ومن انتشار التفكير الغيبي وما يستصحبه بطبيعي أمره من خرافات وأساطير وأوهام.
وهكذا، فإن أنماط التفكير المتأسسة على العلم والعقل والمنطلِقة منهما، هي السبيل لمواجهة نظرية المؤامرة وحصرها في حدود ضيقة.