عفوا لبنان ومعذرة!



قد يكون رئيس لبنان، اول حاكم عربي يعلن فشل النظام السياسي الذي يقف على رأسه. ليس مستبعدا، بحكم طبائع النفس البشرية على الأقل، ألا يكون الرجل مقتنعا بادانة نظام أوصله إلى كرسي الرئاسة، لكنه أعلنها صراحة في خطابه بمناسبة مئوية الدولة، قبل أيام :"النظام الطائفي أصبح عائقا أمام اي تطوير أو إصلاح"، وكأن هذا النظام كان يوما ما على العكس من ذلك.
سواء جاء هذا الإقرار عن قناعة، أو تنفيسا للضغوط الفرنسية الداعية إلى عقد اجتماعي سياسي جديد، او هروبا إلى الأمام، فإن الأهم من الاعتراف بفشل النظام، هو البديل الذي يقترحه الرئيس عون، متمثلا بالدولة المدنية. بمعايير الحاضر، يبدو التحول إلى دولة مدنية حلا مثاليا. لكنه في ظل الظروف التي يمر بها لبنان الشقيق، أقرب ما يكون إلى السعي في أمْكَنَة المستحيل!
لبنان اليوم، أوصلته أزماته المتراكمة إلى مفترق طرق، في مواجهة السؤال المصيري، يكون أو لا يكون. وبتعبير وزير خارجية فرنسا، جون ايف لودريان، "لبنان مهدد بالزوال".
فالعملة منهارة، والدولة مفلسة إذ يصل الدين العام إلى 120 مليار دولار، في حين لا يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي 20 مليارا. أما نسب البطالة والتضخم، فقد تكون الأعلى في المنطقة والعالم. وأخيرا، جاء انفجار مرفأ بيروت ليزيد الجرح نزفا.
أما لماذا وصل لبنان إلى هذه الحال البائسة وكيف، فمن آكد القول أن الازمات والمصائب لم تهبط على هذا البلد الجميل، الذي كان يسمى ذات يوم "سويسرا العرب"، من كوكب الزهرة أو المشتري.
فإذا كانت الدول العربية كلها، رسم الاستعمار حدودها بعد الحرب العالمية الأولى، فقد قسا التاريخ وتكالبت الجغرافيا على لبنان اكثر من غيره، مستندين على لؤم سايكس وبيكو. من دون الخوض في تفاصيل تاريخية، هذا البلد هو جزء من سوريا، ارتأى المستعمرون فصله عنها ولكن بتركيبة اجتماعية سياسية طائفية. وهكذا فإن الطائفية، داء لبنان الأخطر، قد لازمته منذ نشأته. لقد كتب التاريخ على لبنان، نتيجة تركيبته وظروف نشأته في منطقة رمال متحركة، أن يكون أسير التركيبة الطائفية الاجتماعية السياسية، على مستوى الداخل، والتوازنات الإقليمية والدولية، على مستوى الخارج.
بمرور الزمن، تجذرت الطائفية واستقرت في بنية الدولة والمجتمع. والنتيجة، "مذهبة" رؤساء المؤسسات الدستورية والنواب والوزراء والقضاء والجامعات، وحتى الموظفين. أما الأخطر، فعلى أرضية الحرب الأهلية والأحداث التي عصفت باستقرار لبنان منذ عام 1975، فقد أصبح لكل طائفة حزبها او قل أحزابها المتحدثة باسمها، ناهيك بتشكيلاتها المسلحة. من هنا، بدأ الفساد السياسي يتراكم، على أيدي نخب سياسية حزبية وامراء حرب يتقاسمون السلطة وثروات الدولة ومغانمها بلا ضوابط ومن دون روادع.
لقد سلبت الطائفية اللبنانيين صفة الشعب، حيث يقيم في الجغرافيا اللبنانية اليوم مجاميع وأخلاط طائفية ومذهبية، لا تؤلف شعبا بالمعنى الحديث لهذا المفهوم. فالانتماء للطائفة وللمذهب، يعني اننا إزاء هويات دينية على حساب الدولة الوطنية المفترض أنها لكل مواطنيها.
ومثلما حرمت الطائفية اللبنانيين من صفة الشعب، فقد أفقدتهم استقلالهم وحريتهم في اتخاذ قرارهم، الذي لم يعد سياديا ولا مستقلا. فمن خلال الطوائف والمذاهب و"علاقاتها" الإقليمية والدولية، أصبح مصير لبنان مرتهنا للقوى الدولية والاقليمية المتداخلة في شؤونه عبر وكلائها في الداخل. وعليه، يبدو لبنان عاجزا عن معالجة أزماته وتحت الوصاية الدولية. في هذا السياق، يمكن فهم زيارات الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون،
المتكررة ونبرته في الحديث مع "ملوك الطوائف" في لبنان بالتقريع والتأنيب وإصدار الأوامر بخصوص ما يجب عليهم فعله!
النظام القائم في لبنان، لم يعد قادرا على الاستمرار. فقد استنفد الغرض من وجوده، ولكن ما البديل في ظل الظروف التي يمر بها لبنان والدول المحيطة والمنطقة ككل؟!
والآن، نعتقد ان القارئ العزيز، يشاركنا الرأي تأسيسا على ما ذكرنا، وفحواه أن معطيات الواقع اللبناني طاردة للدولة المدنية وتربته تستصعب تقبّل بذورها، في المدى المنظور.
الدولة المدنية في أهم معانيها الحديثة، تعني دولة المواطنة. اي ان الانتماء للوطن وليس للطائفة او المذهب. المواطنة بالمفهوم الحديث، تعني اول ما تعني ان يكون الإنسان حرا في اختيار من يحكمه ويمثله عبر صناديق الاقتراع. هذا يعني زوال نظام المحاصصة الطائفية، الذي أوصل العماد ميشيل عون إلى منصب رئيس الدولة.
الدولة المدنية عالمانية بالضرورة، والا تنعدم فيها أسس المواطنة وتزول شروط المساواة. فليس من حق أي كان، في الدولة المدنية، ان يميز نفسه عن الآخرين ويحتكر لنفسه صفة النطق باسم الله وتوزيع الناس على الجنة والنار.
في الدولة المدنية، الدين لا يتدخل في السياسة ولا في شؤون الإجتماع الإنساني، أي يتم اقصاؤه من ملعب السياسة إلى مكانه الطبيعي، كشأن معتقدي وتعبدي خاص.
فهل يقبل ملوك الطوائف في لبنان الشقيق ذلك، ولا ننسى المستفيدين من نظام المحاصصة الطائفية، وما أكثرهم؟! وهل لديهم الاستعداد حتى لحوار جدي بشأن التحول إلى دولة مدنية، بغض النظر عمّا يصدر عنهم من تصريحات في العلن بهذا الشأن؟!
الدولة المدنية تليق بلبنان الكرامة والإبداع والفن الراقي الجميل. لبنان المقاومة ومواجهة الجيش "الذي لا يقهر". لكن معطيات الواقع الصعب، تقول انها ليست بمرماه، في هذه المرحلة. فقبل ان يفكر الأشقاء اللبنانيون بالدولة المدنية، عليهم أن يجتازوا مرحلة الدولة الوطنية القومية، أولا.