د. عبدالله الطوالبة يكتب: مْصَيّفَةُ الغَوْر!
الأنباط -
لا أعتقد أنه خطر ببال قادة الكيان يوما، أن تتسابق أنظمة العربان زرافات ووحدانا إلى التطبيع معهم بلا ثمن، لا بل وبشروطهم.
انه لمن المخجل، أن تبدو الأطراف العربية هي المتهافتة على دخول "جنة التطبيع" مع الكيان. ومنها من لا يتورع عن تقديم اغراءات للعدو التاريخي، ليتلطف بقبوله ضمن قائمة المندفعين بحماس لافت للتطبيع. فمن بعيد، من السودان الشقيق، سمعنا من يقول بلهجة تتعدى التهافت إلى الاستجداء، بأن السودان أهم للكيان من مصر للتطبيع معه، نظرا لما يكتنزه من ثروات ضخمة. وزاد القائل، أن الديانة اليهودية بدأت في السودان، وأن النبي موسى وُلد في النوبة السودانية!!!
لا أدري، هل سيصل هذا المقال إلى الأشقاء المتحمسين لجني "ثمار التطبيع والسلام" مع الكيان الغاصب لحقوق أشقائهم أم لا. ولكن إذا جاز لي تقديم النصح، فإنني أدعوهم إلى أن تتسع ذاكرتهم من الآن وصاعدا إلى العنوان "مصيفة الغور". وهو بالمناسبة مثل أردني معروف ومتداول. واذا أُشكل على أي من هؤلاء الأشقاء شيء بخصوص لفظ هذا المثل ومعناه، فليسأل أي أردني، ليقوم بواجب التوضيح بالدقة المطلوبة. أما سبب نصح الأشقاء المقبلين على التطبيع مع "أبناء العم"، بتذكر المثل الأردني إيّاه، فلأنهم سيرددونه كثيرا بعد ابتلاعهم المقلب. واذا كان لديهم شك بما أقول، فليمعنوا النظر بتجربتي أشقائهم الفلسطينيين والأردنيين، بعد ربع قرن ونيف على توقيع اتفاق أوسلو واتفاقية وادي عربية.
على صعيد تحقيق "سلام الشجعان" بين الأشقاء الفلسطينيين ومحتلي وطنهم، فمنذ افتتاح ما يُعرف بمؤتمر مدريد للسلام في تشرين أول 1991، ارتفعت وتيرة الاستيطان في فلسطين المحتلة عام 1967، إلى أن بلغت اليوم هدفها المبتغى صهيونيا، بشطب إمكانية تحقيق حل الدولتين على الأرض. وللأسف الأسيف، فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى سلطة، يحلو للكثير من أشقائنا الفلسطينيين تسميتها سلطة أوسلو، هدفها الأول وسبب وجودها الرئيس، حماية الاحتلال. فلم تتوانَ قيادات فلسطينية في تأكيد ذلك، بالتذكير بين الحين والآخر، في تصريحات علنية لوسائل الإعلام، بعدد العمليات الموجهة ضد الاحتلال التي أحبطتها أجهزة السلطة. فاصبحنا ومعنا العالم كله، نتحدث عن احتلال "ديلوكس"، للمرة الأولى في التاريخ، أي الاحتلال غير المكلف، الذي لم يعُد يواجه بمقاومة تؤلمه وتستنزف قدراته وتضغط على أعصابه، كما تقتضي طبائع الأمور بخصوص الحق الشرعي في مقاومة العدو المحتل.
ولمن لا تزال ذاكرته على قيد الفعل، فبالإمكان ولو بالاستعانة ب"غوغل" استعادة تصريح لئيم لثعلب السياسة الصهيونية الهالك شيمون بيرس، إبان "الاشتباك التفاوضي" بين الفلسطينيين ومغتصبي حقوقهم. التصريح المقصود يلخص تماما أهداف الصهاينة في "التفاوض" مع العرب بعامة، ومع الفلسطينيين بخاصة. لا أذكر بالضبط مناسبة التصريح وتاريخه، ولكن ذاكرتي ما تزال تحتفظ بقول الهالك بيرس بالحرف:"... وهكذا أجلسنا الفلسطينيين على خازوق".
هل حصل تغيير، لجهة المرونة والاستعداد لاعادة بعض الحقوق المغتصبة لأصحابها في العقلية الصهيونية، منذ بيرس وحتى اليوم؟!
بالقطع، لا. فما يحدث هو العكس تماما. لقد ازداد الكيان صلفا وغرورا. وبلغت به الغطرسة، حد حرمان بعض أنظمة العربان، وهي في ذروة حماسها للتطبيع بلا ثمن، حتى من ورقة التوت. ومن يقرأ صحافة الكيان هذه الأيام، ويتابع تصريحات قادته، وعلى رأسهم نتنياهو، سيجد من الأدلة الكثير على مقصود قولنا هذا. لسان حال الصهاينة لا يفتأ يردد، هذه الأيام، بنبرة استعلائية: العرب يتسابقون للتطبيع معنا بشروطنا، على أساس السلام مقابل السلام. فنحن من يمنح لهم السلام، كوننا الأقوى، وهم الطرف المهزوم الأضعف.
على الصعيد الفلسطيني ايضا، تمخضت عملية السلام فولدت اتفاق أوسلو. ولقد أثبتت الأيام ومجريات الأحداث اللاحقة على توقيع هذا الاتفاق، انه كان وما يزال انتكاسة للقضية الفلسطينية. فالسلطة الفلسطينية بناء على مضامين "أوسلو" تقوم بدور الوكيل الأمني لمغتصب حقوق شعبها. ومن أسوأ تداعيات أوسلو، توفير ذرائع للعرب المتهافتين على التطبيع مع الكيان، بالادعاء أنهم ليسوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين.
أما على الصعيد الأردني، فلم تبرح ذاكرة الكثيرين منا بعد وعود الخير العميم القادم مع توقيع اتفاقية وادي عربة. لكن الأيام والأعوام، سُرعان ما بددت هذا الوهم. وهناك من طاش على شبر ماء ضحالة بُعد النظر السياسي والمعرفي، وراح يبشر ب"دفن الوطن البديل". ليت القائلين بذلك يملكون اليوم الجرأة الكافية للخروج على للناس، وتفسير معنى ضم "أجزاء من الضفة" بمباركة راعي عملية السلام!!!
الضم في جوهره، ينسجم تماما مع ثوابت السياسات العدوانية الصهيونية تجاه الأردن وفلسطين. فهو يعني في التطبيق العملي، السيطرة على فلسطين كاملة، وحل مشكلة الديمغرافيا المؤرقة للكيان في الأردن. يلي ذلك، العمل بخطى وئيدة على تهيئة الظروف لقضم الأراضي الأردنية بالتدريج، كما فعلوا في فلسطين.
مختصر القول، الضم آخر خوازيق عملية السلام للفلسطينيين والأردنيين. ولا نعتقد أن الكيان يدّخر غير الخوازيق للأشقاء المندفعين إلى دخول "جنة التطبيع" معه، ولو بعد حين من الوقوع في فخ الوهم والقفز في الظلام. حينها سيعرف الأشقاء بمنتهى الدقة معنى المثل الأردني، عنوان هذا المقال "مصيفة الغور".
ونختم بالقول، إن الكيان مهما استكبر واشتطّ في نزوات صلفه وغروره، ومهما حقق له الأميركي من اختراقات ووفر له من دعم، فهذه فقاعات هوائية بمعايير التاريخ لن تنقذه من حقيقته.
فهو كيان استعماري عنصري، ليس بمقدوره الهروب من مصيره المحتوم، كآخر احتلال في التاريخ.