الفساد أكبر من الدولة!



ربما يكون رئيس وزراء لبنان المستقيل حسان ذياب، أول مسؤول عربي على هذا المستوى، يُقر بالحقيقة المُرّة ويعلنها مدوية: "الفساد أكبر من الدولة... هزمتنا دولة الفساد العميقة".
كلام واضح كما الشمس على كف الضحى، لجهة تشخيص الداء بسيطرة منظومة الفساد على مقاليد الأمور في الدولة اللبنانية.
لكن المتأمل للواقع العربي اليوم، لن يجد ما يمنع من "عربنة" الفساد، وسيطرته على مفاصل دولة الحاضر العربية وتحكمه بسياساتها، لا بل وتقرير من بيده الصلاحيات ورسم السياسات.
نقول ذلك، منطلقين من حقيقتين، الأولى، تشابه البلدان العربية في ظروف النشأة وهشاشة بناها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. أما الحقيقة الثانية، فهي التلازم الوثيق بين الاستبداد والفساد. فالاستبداد لا يمكن أن يثبت أوتاده، ويفرض سيطرته، ويضمن استمراره، الا بالفساد والافساد.
لجلاء مقصود قولنا، يفرض علينا السياق وقفة على بدايات النشأة الشاذة لدولة الحاضر العربية كحالة جغراسياسية لم يكتمل تكوينها بعد، ولم تبلغ مرحلة النضج والنمو التاريخيين.
نشير بداية إلى أن هدف الدولة وغاية نشأتها كإطار تنظيمي لشؤون الاجتماع الانساني، هو حماية افرادها وتحقيق مصالحهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. هذا يعني أول ما يعني، أن الدولة تستمد شرعيتها من شعبها، ويرتبط وجودها بحاجته إليها، ورضاه عنها. ويعلمنا تاريخ الدول المتقدمة، أن توافر هذه الشروط يضمن للدولة أسباب التطور السياسي، لجهة احترام الإنسان وحقوقه وصون الحريات والأخذ بالتعددية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني. وعندما تتوفر للدولة بواعث التحول الديمقراطي، فانها لا بد سترفض استمرار الاستبداد والتسلط بمختلف تنويعاتهما. وبالضرورة، ستفرز الآليات الضرورية لتحجيم الفساد، باعتباره الرئة التي يتنفس منها الاستبداد.
لكن دولة الحاضر العربية بالشكل الماثل أمامنا اليوم، لم تنشأ كحاجة مجتمعية تبادلها القبول والقناعة بوجودها، ولم تكن وليدا شرعيا لحركة المجتمع في سيرورته التاريخية، كما هو الحال بالنسبة للدول الأوروبية، على سبيل المثال لا الحصر. فالاستعمار، كما هو معلوم، رسم حدود الكيانات السياسية العربية القائمة، مستثمرا في قراءاته للعقلية العربية وقابليتها للانقسام والاقتتال الداخلي على أسس قبلية وطائفية ومذهبية، ناهيك بالصراعات البلانهاية على السلطة.
لم يكن واردا في حسابات الدول الاستعمارية تصدير الحداثة السياسية لضحاياها، بل تكبيلهم بكل ما يضمن تخلفهم وتبعيتهم لأطول آماد ممكنة من أدوات الاخضاع وأساليب الاكراه، حتى بعد جلاء عسكر الاحتلال الأجنبي. وعليه، ورثت دولة الحاضر العربية من الدول الاستعمارية علاقة انفصالية بين الحاكم والمحكوم، تحكمها الفوقية والتسلط من جانب الحاكم، لأنها في الأصل والهدف تتمحور حول السيطرة على المحكومين. ولهذا انصرف اهتمام الدول العربية بعد انحسار الاستعمار إلى إقامة أجهزة بوليسية أمنية وبيروقراطية إدارية، قبل أن تنوجد التنظيمات المدنية. مقصود القول، الدولة العربية ظهرت كسلطات في مواجهة مجتمعاتها، وفي حالة صراع معها. وعندما يكون بقاء السلطات قائما على اخضاع المجتمعات وقهرها وشل قواها الذاتية، فمن طبائع الأمور أن تنعدم الثقة بين الإنسان العربي ودولته. هذا الإنسان، يرى في دولته عنوانا للتجزئة وتركة استعمارية. ويتضاعف انعدام الثقة، مع ادراك الإنسان العربي لحقيقة تبعية دولته، على الصعيدين السياسي والأمني بخاصة، إلى الخارج. فالنخب الحاكمة، بحكم النشأة الشاذة لدولة الحاضر العربية، لا تثق بمجتمعاتها وتتعالى عليها، كما تعتمد في بقائها أيضا على حماية الدول الكبرى للأنظمة. ومما لا شك فيه قيد أنملة، أن هذه الحماية ليست مجانية.
تأسيسا على ما ذكرنا، لا يمكن لدولة الحاضر العربية إلا أن ينمو الفساد في بيئاتها ويتقونن، ثم يتراكم ويكبر ليتحكم بمفاصلها. والأدلة من الحاضر المعيش لا تحتاج إلى بحث ولا إلى مزيد بيان. فالبطالة والفقر، في بلداننا، من أعلى النسب في العالم. كما شوه الاستبداد والفساد كل مضمون جميل، في واقعنا، وأفرغاه من مضمونه. فقد أفسدا التعليم، وحاصرا الثقافة التنويرية، وشوها القيم والأخلاق، حيث يعم النفاق والكذب والرياء والغش والتفكير الخرافي في مجتمعاتنا. يضاف إلى ذلك، ظهور التنظيمات التكفيرية الظلامية، لتقدم دليلا فاقعا على حجم أزمة الثقافة العربية. هذا عدا عن تزوير ارادة الناس في الانتخابات، نيابية وغيرها. لهذا لا غرابة ان تصل الأمور بآلاف العرب، أن يتمنوا عودة الاستعمار. ولا عجب أن يتجاوز الفساد التحكم بمفاصل دولة الحاضر العربية، إلى مستوى من التضخم، بات يُنظر اليه على أنه أكبر من الدولة!!!