الهجوم من التاريخ…. وإحياء فلسطين الكنعانية..
قد تكون أحداث التاريخ قاسية حين تذكرها، لكن أن يكون التاريخ قاسياً بذاته ويستمر بتلك القسوة رغم مرور القرون والألفيات فذلك معهود فقط حينما تُستخدم أحداثه وتؤدلج لغايات الحاضر، ليس هذا فحسب بل يتم استخدام حيثيات ذلك التاريخ بالتصرف حسب الرغبة والطموح السياسي بحيث تُغير وتبدل بدون أن يرجف جفن لهم، من هم؟ ليس الأمر بتلك الصعوبة من يطلقون على أنفسهم بنو إسرائيل، فقد خلقوا تاريخاً لا تاريخي وأحلوه مكان التاريخ الحقيقي، صنعوا إسرائيل وألغوا فلسطين الكنعانية، أخرجوا هؤلاء من التاريخ ووضعوا أنفسهم مكانهم والآن يريدون إخراجهم من المستقبل ووضع أنفسهم مكانهم، والعالم والعلم يغضان الطرف عن جهل أو عن علم ، الإجابة قد لا تبدو صعبة، ولكن ما أصل الرواية وما عناصر تفنيدها؟ سؤال حائر ساقتني أقداري الحسنة أن أطلع على كتاب واحد من ألمع الآثارين العرب الدكتور خزعل الماجدي الذي يأسر منطقه العلمي كل من يتابعه، لما يمتلك من تجرد وسعة وغزارة في قراءة أحداث التاريخ، وسيكون جزء من الكلام القادم مستخلصاً من مؤلفاته وجوهر فكرته أن التوراة ورواياتها كتبت في مرحلة لاحقة جداً وليس من دلائل آثاريه توًكد صحة ما ورد فيها اللهم إلا في بعض الشطط هنا وهناك .
فقد قسم الرواية التوراتية إلى عشر مراحل وسرد ماذا قالت التوراة, وما هي الحقيقة التي أثبتتها الآثار فهو يؤكد أولا أن لا أثر تاريخي حقيقي لأي من أنبياء بني إسرائيل لا في فلسطين أو غير فلسطين، بل يذهب إلى ابعد من ذلك أن التوراة حولت عشر ملوك سومريون إلى أنبياء لبني إسرائيل، ويأتي على ذكر خروج بني إسرائيل من مصر وتيههم في صحراء سيناء أربعين عام وغزوهم فلسطين والسيطرة عليها، ويفترض أن هذه الأحداث كانت في ١٢٥٠ قبل الميلاد، هذه الفترة يقول عنها إسرائيل فلنشتاين لقد نقبنا عشر سنوات شبراً شبراً في صحراء سيناء ولم نجد قطعة فخار تدل عليهم حتى ما يعرف بجبل نبو فقد عُرف بعد بناء كاتدرائية مسيحية هناك أما الغزو فالآثاريون يقولوا فتشنا في الفترة بين ١٢٥٠الى ١٢٠٠ قبل الميلاد في كل فلسطين ولم يُعثر على أي أثر لغزو أو معارك تدل عليهم حتى أسوار حيفا التي تقول الرواية أنهم هدموها لم يكن لها أي اثر أو وجود في ذلك التاريخ .
أما فترة القضاة وتوحيد المملكة ما بين العام ١٠٣٠-١٠٢٠قبل الميلاد، وتقول الرواية نصب شاؤول ملكاً وألتحق به داوود من قبيلة يهوذا من اورشليم (واسم اورشليم هو اسم كنعاني وليس عبري أو يهودي مطلقاً) ووقفا ضد الفلسطينيين ( طبعاً هذه مغالطة فأسم فلسطين لم يظهر إلا في العصر البيزنطي لاحقاً) لكن ماذا تقول الآثار، لا وجود بالمطلق لهذه المعارك ولادعائهم أنهم سيطروا على فلسطين (كنعان) ويقول ثنكلشتاين لم نعثر في هذه الفترة على اي آثار تدل على شيء من ذلك ، اذاً حتى الآن لم نعثر على دليل واحد يثبت صدق ما تذهب إليه التوراة.
أما مرحلة الملك داوود وسليمان حيث تبدأ جعجعة التوراة حسب الماجدي، ويُفترض أن هذه المملكة ممتدة من سيناء إلى الفرات، وهي بهذا المعنى محاطة بالإمبراطورية المصرية والأشورية، حيث لا ذكر بتاتاً لمملكة من هذا القبيل في الحوليات الأشورية أو الحفريات المصرية، فهل الآثار التي حفظت الأشوريين والمصرين وباحت عن أمجادهم نسيت فقط الإسرائيليين، وتقول الرواية أيضا أن داوود توفي وتولى سليمان المملكة وبنى الهيكل، والاثاريون عندما دققوا في هذه المرحلة لم يجدوا أثراً لأي هيكل بل أن كل ما وجدوه في هذه المرحلة في كل بلاد الشام، أن كل الأوصاف تنطبق على معابد الخصب السورية وعددها عشرون معبد ليس لأي منها علاقة بهيكل سليمان، حتى قصة الزواج من بلقيس فالتاريخ الآثاري يقول أنها ذكرت في القرن الرابع الميلادي في سبأ وذكرت عرضياً فهل يعقل أن سليمان تزوجها ولم تلد بعد أم أن الحديث عن بلقيس أخرى .
مرحلة انقسام المملكة فعندما توفي سليمان لم تتفق القبائل الشمالية على ابنه رحبعام وانقسمت المملكة إلى مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة ويهوذا اورشليم، آثارياً هذه الفترة بالذات هي فترة الأشوريين، حيث لا يضاهيهم شعب في تدوين الاحداث، فالحوليات الاشورية كانت تُكتب سنة بسنة ولم تترك شاردة ولا واردة إلا دونتها، لم تذكر أي شيء يتعلق بما ذكرته التوراة مطلقاً، حتى سبي الملك سرجون السامرة فهي تعرف كمدينة كنعانية فلسطينية فيها آلهة متعددة ولا يوجد أي شيء يدل على أنها مملكة يهودية فالكنعانيون لم يؤسسوا دولة واحدة مثل الاشوريون والبابليين والمصريين إنما عُرفوا بدول المدينة كل مدينة دولة، أما الفضاء العام في منطقة المتوسط فهو كنعاني، اللغة والدين كلها كنعانية ولم يوجد شيء يدل على أنها يهودية.
حتى الاسم إسرائيل فالرواية التوراتية تقول أن يعقوب صارع الرب فصرعه وبالتالي سمي باسم الفعل يصرع يسر والرب بمعنى إيل إسرائيل، أما الأثريون فيقولون أن إسرا هو الاسم الكنعاني لزوجة الإله، وزوجته عشيرا ( ايل وهو الإله الأعظم ) فدمجا وكونا إسرائيل اذاً حتى الاسم هو كنعاني ومملكة السامرة دمرت من قبل الاشوريين في العام ٧٢١ق م ولم يرد أي ذكر لشيء يتعلق بيهود أو أي كتابة عبرية في هذه المدينة، حتى في فترة نبوخذ نصر فلا وجود لأي ذكر لا ليهود أو لهيكل لا رسماً ولا كتابة في المدونات البابلية، طبعاً كانت عادة استبدال أهالي المدن المحتلة بترحيل أهلها الأصليين واستبدالهم بآخرين يؤتى بهم من نفس الإمبراطورية المحتلة أمراً شائعاً في تلك المرحلة من التاريخ .
في القسم السابع والحديث عن أهل السبي وماذا حصل بعد سقوط الإمبراطورية الكلدانية البابلية على يد الفرس، حيث أطلق كورش سراحهم ولم يعودوا كلهم بل عاد نصفهم وإنهم أعادوا بناء الهيكل عن وصولهم والآثار تقول انه لا وجود إطلاقا لمثل هذا الكلام، لكن في هذه الفترة حيث سيطرت فارس فقد أوجدت نظام إداري جديد وقررت تسمية المنطقة يهود، وظهر في بلاد الرافدين ما عرف بمدونات عزرا الكاتب حيث كتب لأول مرة سفر الشريعة لحفظ الطقوس .
في الفترة الهلينستية ٣٢٣-٦٤ق م بطليموس ظهرت الترجمة السبعينية فما قصتها، في تلك المرحلة أراد بطليموس أن يهليين منطقة سوريا ومن ضمنها كنعان فرفضت مجموعة من السكان تلك الرغبة الإمبرطورية فقاوموا الهلينة، بحجة ان لهم عقائدهم الخاصة، وطلب الإمبراطور إحضارهم مع مدونات عقائدهم، ولم يجد احد منهم كتاباً اسمه التوراة في هذه الفترة أي ٣٢٠ ق م، فقام هؤلاء بجمع كل ما لديهم من قصص وأشعار وتقاليد ومثلوا فيها أمام بطليموس الذي طلب منهم جمعها وترجمتها إلى اليونانية، وهنا ظهر أول كتاب جامع للنصوص باليونانية وترجم لاحقاً إلى لغة أولئك الناس والتي لم يثبت بعد أنها كانت العبرية، وهنا بداء تلمس ملامح تقترب من التوراة .
وأول حقيقة تاريخية مؤرخة هي ظهور دولة سمعان المكابي وهي يهودية، لكن الغريب أن المُؤرخ الوحيد لا تعترف به المؤسسة اليهودية، فسفر المكابيين يعتبر غير شرعي بالنسبة لليهود، أما الهيكل المكابي فقد أسس على فكرة بسيطة هي معبد شالم وهي الآلهة العبرية التي تدل على غروب الشمس والاسم قريب جداً من سليمان فتم ربطه، وهنا أُسست الكذبة على القصة الحقيقية الوحيدة وصودر التاريخ منذ هنا، حتى أن الوثائق لم تعتبرهم يهود إذ كانوا يسمون بأهل تورى .
كلمة يهودي كدين أطلقت عليهم لأول مرة في القرن الأول الميلادي من قبل بوليس، أما في العصر الروماني البيزنطي لاحقاً فكانت طبيعة الصدام مع المكونات العرقية والدينية تتأسس على مقدار الولاء للإمبراطور وليس على أساس عقيدة شعوب الإمبراطورية، فهم مثل الأشوريون لم يحاسبوا الشعوب على معتقداتها، وهم أرادوا من هؤلاء الموجودين حصراً في منطقة يهوذا الولاء للملك وليس اي شيء اخر، وهم لم يقدموا الولاء، فحصل صدام انتهى بالحرب في العام ٦٦ قبل الميلاد، الى الن وصلنا للعام ٧٠ ميلادي حينما دخل الجيش الروماني ودمر المعبد المكابي وأخذ محتوياته، وفيما بعد حصل صدام آخر أخليت بموجبه المدينة من هؤلاء بالكامل وتم تغيير اسمها من أورشليم إلى ايليا، والبيزنطيون هم من أطلقوا اسم فلسطين وقسموها إلى ثلاث أقسام: فلسطين الاولى وكانت عاصمتها إيليا، وفلسطين الثانية وعاصمتها اسكيفابوليس، وفلسطين الثالثة في صحراء النقب وعاصمتها البتراء .
أما البلستو أو الفلست أو شعوب البحر والذين هاجموا مصر أولا إلى أن عقدت معهم صلحاً توجهوا بعدها إلى سواحل المتوسط حيث الكنعانيين ودخلوا خمس من مدن الساحل، وكانت مدة بقائهم لا تزيد عن قرنين، بعدها ذابوا في الفضاء الكنعاني الواسع وأصبحوا جزء من نسيجية ومكوناته وهذا يدحض الرواية الإسرائيلية التي تقول أن هؤلاء الفلسطينيون جاؤوا من البحر فليعودوا إليه ، متناسين أن هذه البلاد كانت تسمى ارض كنعان إلى أن قسمها الرومان وأطلقوا عليها اسم فلسطين، ويذكر الدكتور الماجدي أن هنالك اكثر من ٤٨ نبي ذكرهم اليهود ليس لهم أي وجود تاريخي في الحفريات الأثرية وهذا الأمر ينطبق على ٥٠ ملك آخر فيما أطلق عليه إسرائيل ويهودا الشمالية والجنوبية من شاؤول إلى نحميا ليس لهم أي أثر مكتوب أو وجود مادي وإنما اقتصر ذكرهم على التوراة فقط في حين ان ملوكاً آخرين غيرهم وجودا في تلك الفترة، حيث تزخر الآثار بموجوداتهم وبقايا ممالكهم فهل تأمرت الآثار على اليهود ؟
هنا انهي الاقتباسات من الأستاذ الدكتور خزعل الماجدي وأعود إلى أصل الحكاية، إذا كان هؤلاء استطاعوا أن يغيروا التاريخ بهذه الحرفية العالية فبدون شك أنهم قرأوه وبتمعن واستهلكوا ربما عقود ان لم اقل قرون، فمنذ صحوة القوميات بعد الثورة الصناعية أدركوا هدفهم ورسموا له بمنتهى الدقة مستغلين غياب أهل المنطقة الأصليين عن الوعي بسبب سباتهم العميق وانقطاعهم عن مسيرة التحضر وكمونهم قرون عديدة في غياب قسري بسبب الجهل وحكم الآخرين، والسبب الآخر أيضا جهل الشعوب والأمم الأخرى التي بدأت مسيرة الحضارة بتأريخ الشعوب الأخرى، وحينما بدأت بمحاولة اكتشاف الأمم والشعوب الأخرى كان ذلك لغايات مصلحية ، سواء الثروات التحف العاج، إلى ما هنالك من أمور، وفي خضم ذلك الغياب الثنائي كان من السهل لأي كان يمتلك الإرادة والغاية أن يوجه مسار قراءة الماضي وفق مصالح معينة، وهذا ما حصل بالفعل فهذا التاريخ كما رأينا فقيراً باليهود ومنجزاتهم إلا في بعض المحطات هنا أو هناك، وكان غنياً ومتخماً بالغنى بتاريخ الكنعانيين والذين ملؤه في اغلب مراحلة، هؤلاء تم تفريغهم من محتوى ذلك التاريخ بحيث أُخفي وجودهم وتم ملئ مكانهم الذي شغر برواية ليس لها أي أساس حقيقي وبأناس لم يكونوا ربما إلا على هامش ذلك الوجود، وهم حينما فعلوا ذلك بوعي فتفريغ التاريخ من محتواه الحقيقي يعني بنفس الوقت صناعة مستقبل يملؤه هذا المحتوى المزيف وهنا مربط الحكاية .
إذا لن يتم إعادة ملئ المستقبل بالمحتوى الحقيقي إلا إذا تم محو التزييف الذي كان حتى يتسنى إعادة الرواية إلى نقطة انطلاق تستند إلى وقائع يثبتها التاريخ والاركولوجيا، يجب أن يُعاد تفريغ التاريخ من محتواه المزيف، هذا لن يتم إلا بالبدء فوراً بالتخلي عن الثوابت التي صنعتها الرواية الصهيونية في العقل الغربي وكذلك المشرقي والتي تبنياها كمسلمات، كل هذا لن يكون إلا بإعادة إحياء منظومة متكاملة من الأفعال البحثية المستندة إلى نتائج الأستقصائات الأثارية فقط والإلغاء التام لفكرة أن التوراة أو الكتب اليهودية تشكل مرجعاً تاريخياً، طبعاً المجتمع العلمي جاهز لذلك بل والعديد من علماء الآثار ومنهم يهود بدؤوا بذلك وقطعوا شوطاً واسعاً في بحوثهم، لكن الملفت أن اغلب العرب وحتى الفلسطينيين منهم لا تزال الرواية التوراتية والصهيونية هي مصدرهم الوحيد في معلوماتهم عن فلسطين، باعتقادي أن أصل الصراع يجب أن يعود إلى مبدأ، فقد بدأ من التاريخ فاليعود إليه ولنبدأ بالهجوم بإعادة إحياء فلسطين الكنعانية .