"... أفيون الشعوب! "
عبارة انتُزعت من سياق النص والتاريخ، لينالها ما نالها من اجتزاء وتحريف وتشويه، مع أنها تشير إلى عكس ما استقر في أذهان الكثيرين بشأنها.
وردت العبارة المظلومة "الدين أفيون الشعب" وليس الشعوب، كما سنرى بعد قليل، في دراسة نقدية لفلسفة الحق الهيجلية، كتبها كارل ماركس في كانون الأول عام 1843 ونُشرت في شباط 1844. وقد جاءت ضمن الفقرة التالية :"المعاناة الدينية، هي في الوقت ذاته تعبر عن المعاناة الفعلية، واحتجاج ضد هذه المعاناة، فالدين تنهيدة الكائن المقهور، وقلب لعالم بلا قلب، وروح لعالم بلا روح، الدين أفيون الشعب".
هنا، الحديث عن الدين "كفداء وخلاص"، بمعنى تأكيد دور الدين في تسكين آلام المقهورين، المتسببة عن شظف العيش وقسوة الحرمان والفقر.
في سياقها التاريخي، قيلت العبارة أثناء حرب الفلاحين في ألمانيا، وظهور اللوثرية في مواجهة الكاثوليكية والتزام البابوات مع الاقطاع. كان استخدام الأفيون شائعا آنذاك، وخاصة من قِبَل الفقراء، لرخص أسعاره ولتهدئة آلامهم بالهروب من هموم الواقع ولو لبضع ساعات. ظلت الأحوال على هذا المنوال، حتى أدرك الوعي العام لاحقا التبعات المدمرة على صحة الإنسان نتيجة استخدام هذه المادة.
اذن، الشعب المعني في عبارة "الدين أفيون الشعب" هو الشعب الألماني، في مرحلة تاريخية محددة. وعليه، يمكن أن نضيف إلى معنى العبارة، بناء على سياقها التاريخي، أن الدين يلعب دورا مزدوجا. فهو مُسكّن لآلام المقهورين المعذبين في الأرض من جهة، وحركة احتجاج من جهة ثانية. لا إنكار للدين هنا، بل تأكيد على كونه الملاذ الأخير للمضطهدين والمستغلين(فتح الغين) في عالم الرأسمالية.
تأسيسا على ما تقدم، نرى أنه على قراءة العبارة في سياقيها النصي والتاريخي، يستقيم المعنى ويتراءى المغزى، ومبناهما أن الإنسان المقهور يلجأ إلى الدين، ينشد فيه الخلاص من قسوة ظروف الواقع، ومن عالم قاس بلا قلب وبلا روح. ومما يحسن ملاحظته في هذا الباب، التشابه في الجوهر بين ما ذهب اليه ماركس وما قال به عبدالرحمن الكواكبي :"إن أسير الاستبداد المعذب، المنتسب إلى دين، يُسَلّي نفسه بالسعادة الأخروية" (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ص80).
لعل القاسم المشترك بين القولتين، أن الدين يخلق عالما روحيا للإنسان، يلجأ اليه من قسوة عالمه المادي. فالإنسان بخلاف الكائنات الحية كلها، يتجاوز عالمه المحسوس، لأنه يحلم ويتخيل ويتمنى بلوغ عالم المثال، مطلق العدل والكمال. عالم متخيل، وخاصة بالنسبة للبائسين المحرومين، يعقدون عليه الأمل بالخلاص وبالتعويض عن الحرمان في الدنيا. والذي نراه، أن القراءة العلمية المتأنية لانتشار ما يُعرف بالتدين الشعبي في الأرياف العربية وفي أحياء الفقراء والمفقرين والمحرومين، لا بد ستؤكد صحة المعنى المومأ اليه قبل قليل.
اذن، كان مطلوبا انتزاع عبارة "الدين أفيون الشعب" من سياقيها النصي والتاريخي، وحرفها عن معناها الأصلي بالاجتزاء والتشويه. فهناك قوى، صاحبة مصلحة بتغييب المعنى المجازي لصالح القراءة الحرفية، بعيدا عن السياق. أما الهدف المبتغى، فقد كان وما يزال توظيف الدين في شيطنة الفكر الماركسي، وبخاصة خلال مرحلة الحرب الباردة بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي. كان مطلوبا بحد ذاته، أن تستقر العبارة في الأذهان على النحو المشوه المعروف "الدين أفيون الشعوب". فالعبارة على هذا النحو، محملة بما يكفي من دلالات تختزل الفكر الماركسي بمعاداة الدين. وكما هو معروف، فإن أسهل الطرق لصرف الناس عن شخص أو اتجاه فكري، في مجتمعات متدينة، هو الطعن في دينه. وعليه، لم يعد صعبا تحديد المستفيدين من هذا التحريف والتشويه، في بيئاتنا العربية. إنها القوى، صاحبة المصلحة في تزييف وعي الإنسان العربي، وبرمجته على اجترار ما يتلقّنه وما يُلقى في روعه، من دون تبصر وتفكر، لتسهيل السيطرة عليه والتحكم به. الظلاميون حراس التخلف، وبموازاتهم القوى المرتبطة مصالحها بالتبعية، بائنون بأفاعيلهم في التعمية والتضليل، كما الشمس على كف الضحى.
أما وأن الناس يتقدمون بافكارهم وليس بأديانهم، كما يعلمنا التاريخ، فلا أظننا نجافي الحقيقة اذا قلنا إن تضليل الناس وتزييف وعيهم، هما أفيون الشعوب الحقيقي.