ثورة الجوع والجمال والورد تضع لبنان على مفترق طرق وعر
إخلاص القاضي
تتجه أنظار كل العالم على كل لبنان، هذا " السويسري الشرق"، المنشغل بحروب عبثية، أعادت إنتاجه بلداً مقسماً، مهمشاً، مشتعلاً، منهكاً، وساحة حرب حتى في السلم حيث الاغتيالات المتعاقبة التي سجلت ضد مجهول، حتى اللحظة.
أقول أن العالم شاخصة عيونه عليه، ليس لمتابعة جميلاته الثائرات على وقع الموسيقى والدبكة فحسب، بل لان لبنان ولأول مرة منذ عقود، على مفترق درب دقيق، ووعر، وخطير، فأما الحرية والانعتاق وإن بأثمان وتضحيات كبيرة في شوارع مثقلة بألم الاستغاثة، وحسن الصبر نحو عيش بكرامة، أو، البقاء في المربع الطائفي والحزبي، في حال فشلت الثورة، نتيجة لعوامل مرتبطة حكماً بداخل "قنبلة"، وخارج مستفيد، يرقص طرباً، لكل انقسام، ولكل فوضى، ولكنه انصت هذه المرة صاغراً، ومترقباً خلف جدران الانتظار، لصوت الشوارع الغاضبة الراقصة المذبوحة قهراً من الوريد إلى الوريد.
لا يعلم هذا "الخارج" كيف سيعيد رسم خريطة مؤامراته، سيما وأن الشارع الثائر بريء من دم الارتباطات، والارتهان، الأمر الذي يربك" الخارج"، المتسلل للعمق اللبناني باختراقاته، وتدخلاته، حيث تفاجىء، بلون مليوني لبناني واحد، تحت راية العلم، والاتفاق فقط على مؤسسة الجيش، وهذا ما لا يمكن قمعه، أو شراء ذممه، أو اقناعه بالتراجع.
اندهش العالم من مظاهر انتفاضة، أو ثورة، لم تحدث في التاريخ، ولا خطرت على بال ثائر، اكثر من مليوني ونصف المليون لبناني، افترشوا الساحات والميادين مطلقين صرخة عابرة للطوائف والمحازبة" كلن يعني كلن"، في طلاق " بالثلاث"، من سلطات ثلاث برأس هرم، هرِم، وتسلطوا معاً على قوت البلاد والعباد، وامعنوا في سرقة احلامهم وواقعهم ومستقبلهم.
قوافل جرارة، بحناجر صداحة، خرجت عن صمتها المخنوق، وكسرت حاجز الخوف من زعيم الطائفة والحزب، إذ صدقوا إرادتهم هذه المرة على التغيير والإصلاح "بالمعنى الايجابي"، معيدين للمفردة فعاليتها، وإن بشكل إستباقي.
ثورة ادهشت العالم، واثارت اعجابه، أو ربما استغرابه، من مشاهد، لم ترها ثورة أخرى، فبدلاً من التكسير والتخريب والعنف، (عدا عما حصل في أول ايامها)، وبدلاً من مظاهر الفوضى، عمد اللبنانيون لسيناريو التنفيس من القهر، سيناريو الرقص والغناء والورود والتضامن ورفع الاعلام ، وصولاً ل" الانفلات اللفظي"، (ولا ابرره هنا، ولا ابرره بالمطلق)، ولكنه من " حرقة قلب موجوع"، وربما حرية تعبير عامية، خانت البعض، ورصدتها الكاميرات التي تنقل ببث حي ومباشر، دون وجل، فلم يكن بالامكان" منتجة" الحديث، وترتيبه وإقتطاع اجزاء منه، غير أن البعض من الثائرين تدارك الأمر في بعض المناطق، وعمم بضرورة عدم التلفظ ببذاءة على المسؤولين، وحتى لو كانوا هم"أساس البلاء".
وتالياً، لا يمكن في هذه الاحتجاجات المليونية، ضبط ايقاع الناس بها، فهنالك من يعبر بلباقة، وهنالك من يتصرف على طبيعته، دون ترتيب للافكار، لإن وجعه أكبر، ولأن قهره اكبر، ولإن وضعه لم يعد يحتمل، ولإن دبلوماسيته هاجرته إلى غير رجعة، على وقع موته البطيء.
هذا في الشكل، ولكن المضمون وهو الأهم، ثورة عارمة، لا تريد العودة للوراء، ولا تريد أي أوراق إصلاحية، لأن الطبقة السياسية، لم تفهم وجع الناس للآن، ولا تريد تذكر " الآن فهمتكم"، حيث لم تعد تنطلي تلك الحجة على المقهورين، لذا يركز اللبنانيون على مطالب إنقلابية رأساً على عقب، لا تريد وجهاً سياسياً واحداً، من الطبقة الحاكمة وبكل السلطات، فمن غير المقبول، احتكار السلطة والمال، بطبقة متنفذة، فيما الشعب يلفظ رمقه الأخير.
ولكن السؤال الأهم، هل ستبقى الثورة سلمية؟ هل سيرضى ملوك الطوائف وقادة الأحزاب والمنتفعين من الدولة الريعية، أن تهتز عروشهم؟ هل سيقفوا موقف المتفرج على حصونهم تنهار، دون مقاومة؟.
الخوف كل الخوف، من سياسة" علي وعلى أعدائي"، وأن يعمد كل فريق سياسي وطائفي وحزبي لإضاءة إشارة التدخل "لجيوشهم" المسلحة، في ساعة صفرية، ب"شارع مقابل شارع"، بين من هو مع الثورة وبين من هو ضدها، لتتحول الساحات لمعارك دموية، تعيد لبنان للقرون الوسطى، أكثر.
ولكن، هل أن ذلك وارد الآن؟ يبدو أن مراكز القرار في العالم، والجهات الممعنة في التدخل بكل مفاصل وقضايا لبنان، تترقب ما سيحدث، وستتصرف تالياً من وحي مصالحها، ويبدو أن لبنان اليوم ليس على رأس أولويات"أبو شعر برتقالي"، الذي لا يريد دعم الخط" البرتقالي"، في لبنان، لا سيما وأن الداخل هنالك معقد للغاية، والتورط أكثر به كالعالق برمل متحرك، فاقد ل" جي بي إس" الأفق والهدف.
لبنان اليوم وبعد مآلات العبثية والفساد والسرقات ومديونية خانقة وصلت الى ١٠٠ مليار دولار، وغياب للماء والكهرباء وتراكم النفايات والموت قهراً على أبواب المستشفيات، والتعيينات على أسس المحاصصة والانتماء الطائفي، وتلوث البحر والنهر، وبعد إنهاك من حروب أهلية مدمرة، وما يقال عن إستبداد بالسلطة، وتمسك بالكراسي، وتوريثها، وفارق فلكي بين الطبقات، بعد كل هذا، لبنان في شبه عزلة، فالجوار مشغول بهمومه، واسرائيل على الضفة الأخرى ترقب الحرائق المفتعلة حرجياً وسياسياً، مبتسمة، منتشية، وعواصم صنع القرار أمعنت تدخلاً وقيادة لبنان للمجهول، ولن تنقذه اليوم، كما لم تنقذه بالأمس كرمى لعيون المستعمرة، وستتركه يتخبط، وستصدر بيانات معلبة،"تحترم ما يقرره الشعب اللبناني، وأنها مع سيادة وحرية واستقلال لبنان، وديمقراطيته".!!
وعودة على بدء، لن ينقذ لبنان إلا شعبه، وبالمناسبة ولكل من يختصر ثورة الجوع والقهر في لبنان بثياب المتظاهرات واشكالهن الجميلة، وحتى الالفاظ التي هي حرية لا علاقة لنا بها، عليه أن يراجع طبيباً نفسياً، وأن يتذكر أن شعبه ليس ملائكة، بل يمارس البعض منه اسوأ أشكال السلوكيات والشتائم والعنصرية، ولكن الفرق أن الكاميرات لم ترصدهم، كما أن المزاح والنكات على بعض المشاهد في التظاهرات، لا مشكلة، " يعني بتمرق"، أما أن يوصف الشعب اللبناني من قبل البعض بانه بلا اخلاق ولا قيم وشعب" واطي"، فهذا مرفوض ومدان، هذا الشعب هو الذي قاتل اسرائيل واحرق بوارجه، وصد عداونه، وصد الارهاب، وهو من صبر على حرب أهلية، لو عاشها البعض، لما صمد يوماً.
للبنان كل الحب، وكل التضامن، ومع كل ما يقرره الشعب بمعزل عن أي ضغوطات، عسى أن لا تنحرف الثورة عن مساراتها، وأن يصمد الثائرون في الشارع، الذي اسقط منذ وقت ليس ببعيد، كراسي تعبت من ثقل المتشبث بها، ولو كان على كرسي متحرك.