الفصحى والعامية:من ستحتل موقع الأخرى؟

الفصحى والعامية:من ستحتل موقع الأخرى؟

محمد علي بحري
الإنسان هوية، واللغة أحد مكوناتها، وإحدى مزايا الإنسان، فهي وعاء الثقافة والفكر، تختزن المشاعر والذكريات والآمال، وتبدو فيها منعَكسات تفكير أهلها، كما أنها إحدى شعائر الأمم التي بها تتمايز أو تتفاخر. وتُعدّ العربية إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة. وهي لغة رسمية في ثمان وعشرين دولة، يتحدثها أكثر من أربعمئة وعشرين مليوناً. أما الشبكة العنكبوتية(الإنترنت) فتشهد في كل عام ازدياداً في أعداد مستخدمي العربية، حتى أصبحت العربية سنة 2018 في المرتبة الرابعة بعد الإسبانية، والصينية، والإنجليزية. وبوجود هذه الأرقام، ومع ما حملت العربية من تاريخ زاهٍ نقلتْ فيه الحضارة العربية الإسلامية، بأدبها وقيمها وفلسفتها وتاريخها وعلومها الاجتماعية والكونية، بل حفظت فيه أيضاً علوم اليونان وفلسفتهم، وكانت خير مؤتَمنٍ عليها، ومع ما امتازت به من خصائص في ثراء مفرداتها، وبلاغة أساليبها، وقدرتها على الازدياد والاستيعاب للعلوم وابتكاراتها؛ ومتعةِ أسرِها لمن عشقها وأتقنها، فإنها تواجه اليوم عدة تحديات، من أهمها: الثنائية أي مزاحمة اللغات الأجنبية لها، والازدواجية أي مزاحمة اللهجات العامية المحلية الدارجة، وغلبتُها في بعض المجالات. فهل العامية خطر عظيم يمكن أن يودي بحياة العربية الفصيحة، أو يزيحها ليحتل مكانها أو ربما مكانتها؟

في طريقنا إلى الحديث عن هذا الموضوع سنطرح بعض التساؤلات، وهي: هل العامية أو اللهجات الدارجة المحكية تحدٍّ واجهته العربية وحدَها؟من بدَهيِّ القولإن اللغات بطبيعتها تمتلك مستويات في خطابها، ففيها الرسمي والعامي، والأكاديمي العلمي والأدبي، وما يصلح في خطاب أو جنس فني ربما لا يصلح في خطاب أو جنس غيره. ويخطئ من يعتقد أن أبناء اللغات الأخرى سواء في فهم كل ما يُكتب في لغاتهم، لكن شدة الاختلاف بين الفصحى والعامية في العربية قد تكون الأبرز بين اللغات. وقد قسّم أحدهم اللغةالعربية إلى أربعة مستويات أو أنماط هي: العربية الفصحى أو الكلاسيكية (عربية التراث)؛ والعربية المعاصرة (عربية الصحافة والإعلام)؛ وعربية المثقفين (العامية الممزوجة بالفصحى)؛ والعامية (المحكية الدارجة).

ويتوقف فهم المستوى الأول من العربية على مستوى النص وطبيعته وعلى مستوى القارئ ومعرفته. أما المستويات الثلاثة الأخرى فهي بالعموم مفهومة للغالبية في ضمن القطر الواحد، إلا أن المشكلة الثانية التي لا تدخل في حديثنا اليوم – أعني مشكلة الثنائية اللغوية ومزاحمة اللغات الأجنبية – تُقلِّص من نسبة القادرين على فهم المستوى الثاني والثالث. وهنا يجب أن نسجل حقيقة يتغنى بها أبناء العربية أن لغة من اللغات الأساسية لم تعرف ما عرفته العربية من ثبات في أصول قواعدها على مدى خمسة عشر قرناً، ويصعب أن تجد ما لدى العربية من نصوص ترجع إلى هذه القرون ومع ذلك تقرؤها اليوم وتفهمها بالغالب وعلى رأس هذه النصوص الأحاديث النبوية، ولا سيما المشهور المتداوَل منها، ونصوص السيرة النبوية وما فيها من قصص وحوارات وأحداث، ولا ننسى القرآن الكريم إذا استثنينا المفردات التي نجدنا غرباء عنها لبعدنا عن لغة التراث. كما أسجَل هنا أن العربية بطبيعتها المرنة وخصائصها المساعِدة كقبول المجاز والتشبيه والاستعارة تمتلك القدرة على أن تضم إليها تعبيرات جديدة نلمحها غالباً في لغة الإعلام كعبارة (لا جديد تحت الشمس) القادمة من الفرنسية، و(يلعب دوراً) الآتية من الإنكليزية، والكثير غيرهما.
إذا عرفنا أن العربية ليست وحدها التي انفردت بوجود اللهجات إلى جانبها فلنا أن نسأل:هلاللهجاتقديمة؟يرى ابن خلدون أن العرب عندما اختلطوا بالشعوب الأخرى في الفتوحات تسرب إليهم فسادُ اللسانِ وملكةِ اللغة، وبدأ هذا بحركات الإعراب، ثم تبعه الخطأ في استعمال المفردات في غير ما استعملته العرب في كلامها. ويمكننا أن نرى مع امتداد رقعة العالم العربي أثر الأقوام الأخرى في لغتنا تبعاً لمحيط كل بلد واختلاطه بالأعاجم. ومن ناحية أخرى نعلم أن الجزيرة العربية عرفتْ عدةَ لهجاتٍ كان اللغويون يسمونها (لغات)، وبعضُ خصائصها ما زالت آثارها في لهجاتنا المحلية، حيث ذكر اللغويون بعضاً منها مثل (الاستنطاء) في لغة سعد وهذيل التي تجعل العين الساكنة نوناً إذا جاورت الطاء فيقولون (أنْطي) أي أعْطِي‏. والشَّنشنة في لغة اليمن حيث تجعل الكاف شيناً فيقولون لبَّيْش أي لبيك، وغير ذلك.‏ وإن دققنا النظر وجدنا أنه من الخطأ أن نقارن تلك اللهجات بالعامية اليوم؛لأن ما وصلنا من نصوص أو اختلافات بين هذه اللهجات لا يعدو أن يكون اختلافاً في معاني بعض الكلمات أو لفظها واختلافاً في بعض الأحكام النحوية. أما الاختلاف بين الفصيحة والعامية اليوم فأكبر من ذلك، وهي في المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي، إضافة إلى أن العامية ذات قواعد بسيطة وتختفي فيها بعض الصيغ والضمائر، ولا يقارن ما فيها من مفردات بثراء الفصيحة؛ ولذلك نجد الطفل الذي لا يبدأ بتعلم الفصحى من صغره من خلال المدرسة والبيئة فقيراً جداً في مفرداته.

هل العامية خطر على الفصحى؟
إن كانت هذه الظاهرة ليست مقصورة على العربية، وهي في كل لغات العالم تقريباً، وإن كانت اللهجات ظاهرة أصيلة في الحياة العربية فعلام نخشى على الفصحى؟
الجواب يكمن في أن العامية على مدى العقود كانت حاضرة، ولكنها لم تزاحم الفصحى كما هي اليوم، فمظاهر هيمنة العامية باتت كثيرة، تجدها في التواصل اليومي، في البيت والعمل، وفي كل مرافق الحياة، حتى في المدارس وفي حصة اللغة العربية، بل تسللتْ في بعض الأماكن إلى خطب الجمعة، كما تجدها في برامج التلفاز والإذاعة، وتسمعها في الأفلام والمسلسلات والأغاني. وصار الطفل العربي يكتسب العامية أولاً، ثم يتعلم الإنكليزية ثانياً وتأتي العربية ثالثاً، فلا يكاد يقرأ شيئاً بها، ويوشك أن يتعلم العربية الفصيحة وكأنها لغة أجنبية. ومن طبيعة الإنسان أنه عدو ما يجهل، فإنْ هو لم يتقن العربية زهد فيها أو نأى عن استعمالها، وفاته ما فيها من ثروات معرفية وأدبية، وغدا أكثر عرضة لتهديد الهوية الثقافية.

هل من وميض؟
علينا ألا نُغفِل أمام الصورة القاتمة لواقعنا اللغوي بوارقَ الأمل إزاءنا، فما زالت الصحفُ الرسمية تَصْدُر بالعربية الفصيحة حتى حيث تسيطر اللغات الأجنبية في قطاعات كثيرة في المجتمع. وما زالت المؤلفات بالعامية محدودة المجال، وما زال للكلمة الجميلة الفصيحة وقْعُها، ويسمعها طيف كبير من الناس عندما تجد الطريق المناسب إلى قلوبهم، من خلال الفن والإعلام، فنجد أشعاراً فصيحة اشتُهِرت أغانيّ، كقصيدة (أعطني النايَ وغني) التي غنتها فيروز، وقصائد (نزار قباني) المغنّاة، بل إن شاعراً لبنانياً شاباً هو (مهدي منصور) سعى بقصائده إلى تقريب الفصحى من جيل الشباب، فكُتب لبعضها أن يُغنّى وحصدت إحداها وهي (أُحب يديك) التي غنتها (فايا يونان) السورية أكثرَ من خمسة عشر مليون مشاهدة في (اليوتيوب). ومعكل تحديات التغريب والعولمة نجد برامج إعلامية يشاهدها الملايين، وهي باللغة الفصيحة لا العامية مثل (فوق السلطة) لنزيه الأحدب، و(مع تميم)، بنصوصه النثرية مثل (ما أشبه الليلة بالبارحة!) أو الشعرية مثل (تقول الحمامةُ للعنكبوتِ). كل هذا يقول لنا: ما زالت السوق رائجة للغة الشاعرة عندما تجد الوسيلة الفنية الجميلة، وكلما رحمْنا أبناءنا ويسّرنا لهم السبل الجميلة لتذوُّقِ العربية، وأحطناهم بالوسائل الجذابة في البيت والمدرسة والإعلام، وجدت العربية الطريق إلى قلوبهم، ولهجتْ بها ألسنتهم وأقلامهم. نعم، لا نُنكر أن ناقوس الخطر على لغتنا يدق ولكن المستقبل رهنٌ بمقدار ما نستطيعه من سنِّ تخطيط لغوي عملي، ومقدار استدراكنا لسُباتنا الحضاري الذي نأمل ألا يطولَ أكثر.
منسق اللغة العربية بمعهد دراسات الترجمة
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة