ماذا في جعبة أمريكا بعدم تنفيذ الضربة العسكرية؟
حازم الراوي
في إطار الصراع الحالي بين أمريكا وإيران يصعب التكهن بالعديد من الأحداث القادمة . ولكن هنالك مؤشرات ومعطيات ومعلومات تؤثر حتما فيها . ومنها الانتخابات الأمريكية القادمة ، مستوى تأثير الحصار الاقتصادي على ايران ، وجود الأذرع الايرانية المنتشرة في المنطقة وإمكانية لجمها ، سمعة وهيبة الولايات المتحدة الامريكية ، الانقسام في الرؤى بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي داخل الكونغرس ، الضغط المتواصل للصقور في الادارة الامريكية لاستخدام القوة العسكرية ، الموقف الأوربي المتأرجح فيما يخص الاتفاق النووي ، اسرائيل وفرصتها السانحة لاستهداف مفاعل بوشهر النووي الايراني ، حجم وتأثير المعارضة الايرانية في الداخل والخارج ، وغيرها الكثير .
وإذا ما توقفنا عند جزئية صغيرة في إطار هذا الصراع والتي كثر الحديث عنها بعد إسقاط الطائرة المسيرة الامريكية من قبل الدفاع الجوي الايراني في الأجواء الدولية ، فان الكثير من المراقبين يعتقدون بان عدم الرد العسكري الامريكي المباشر المحدود يعد ضعفا او ترددا أو خوفا ، والبعض الآخر يعتقد أن ذلك يأتي ضمن الاستراتيجية المعتمدة من قبل الادارة الامريكية لعدم الانجرار الى مواجهة عسكرية مبكرة ، والتي تريدها ايران الآن بأي ثمن !! وقد يتصور البعض أن امريكا وقعت في حيرة من أمرها فان ردت عسكريا فإنها ستفتح باب القتال المسلح والمواجهة الشاملة ، وان صمتت فإنها تخسر سمعتها الدولية فضلا عن الرأي العام الامريكي الذي سيوجه له مستقبلا أعضاء الحزب الديمقراطي أسئلتهم المحرجة في مناظرات الترشيح للدورة الثانية من الانتخابات القادمة .
وقبل أن نتعرض لمجمل الفوائد والمحاذير من الرد العسكري الامريكي الذي تم تأجيله وليس إلغاءه دعونا نتعرف ببساطة على مفهوم الاستراتيجية ، ونتطرق بإيجاز الى الاستراتيجية العسكرية المعتمدة من قبل طرفي الصراع . فالإستراتيجية تعني علم وفن استخدام القوة لتحقيق أهداف السياسة . والقوة هنا جاءت مطلقة فقد تكون قوة عسكرية ( استخدام مباشر للقوات المسلحة ) ، قوة اقتصادية ( الحصار الاقتصادي ، مقاطعة بضائع ..الخ ) ، قوة دبلوماسية ( عزل سياسي ، قطع علاقات ..الخ ) ، قوة اجتماعية ( طائفية ، عرقية ) ، او قوة إعلامية ( حرب نفسية ، صخب إعلامي مضاد ) وغيرها .
وعموما عندما يتم اعتماد أي من هذه القوى تكون القوى الأخرى مساندة لها لتحقيق هدف السياسة في إخضاع الخصم للإرادة المقابلة .
وبالطبع فان امريكا قد اختارت الاستراتيجية الاقتصادية كإستراتيجية رائدة في هذا الصراع لتحقيق أهداف السياسة الامريكية المتمثلة بتنفيذ ايران للشروط الاثنى عشر المفروضة ، مع دعم الاستراتيجيات الأخرى ، العسكرية والسياسية والاجتماعية والإعلامية لها . ويبدو أن الحصار الاقتصادي الخانق لتصفير النفط قد أخذ مداه بشكل خطير . فإذا ما استمر هذا الحصار بنفس الوتيرة فان ايران سوف لن تتمكن من الاستمرار في تنفيذ مشروعها الذي يمثل الهدف الاستراتيجي الأعظم لها بما يسمى تصدير الثورة وتحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية ، وإذا ما وافقت على العرض الامريكي في التفاوض فإنها ستخسر أيضا نفس المشروع لقساوة الشروط الاثنى عشر . وكذلك فإنها بكل الأحوال تخسر قوة اذرعها التي تحتاج الى تمويلها ، مثلما تخسر جبهتها الداخلية التي يتفاقم فيها الجوع والفقر والبطالة بشدة يوما بعد آخر ..ولذلك فان المخرج الوحيد لإيران هو الاشتباك العسكري مع الولايات المتحدة الامريكية ودول الخليج بشكل مباشر بقوات الحرس الثوري وغير مباشر بقوات اذرعها ، حيث يحقق ذلك من وجهة نظرها العديد من الفوائد ، لعل أهمها يتمثل في محاولة كسب الصين وروسيا وأوربا للتدخل في السعي لإيقاف العمليات العسكرية والجلوس الى مائدة التفاوض بعد تخفيف العقوبات الاقتصادية وتخفيض سقف المطالب الاثنى عشر الامريكية . وكذلك فان ايران تعتقد أن جر امريكا الى الصراع المسلح سيؤدي الى استمرار المناوشات في عموم المنطقة حتى بدء الانتخابات الامريكية ، وعندها يتصورون أن ترمب سيخسرها ، ومن ثم سيتبدل الحال !
ومن هنا فان الإدارة الأمريكية يبدو أنها فهمت التحرش العسكري الايراني الذي يستهدف إيقاع أمريكا بهذا الفخ الخطير .. فأصبحت كما يقول المثل الشعبي العراقي ( بين حانه ومانه راحت لحانا ) .. فان ردت عسكريا بشكل محدود فسيفتح باب الصراع العسكري على مصراعيه دون توقف ، وان لم ترد فستخسر سمعتها ..
ولذلك فهي تدرس الآن أسهل واسلم وأسرع الخيارات للخروج من هذا المأزق دون أن تتخلى عن هدف الصراع والإستراتيجية الاقتصادية الرائدة فيه .. فهي إما أن ترد بقوة في عمليات تجريد واسعة تستهدف مراكز القيادة والسيطرة والقواعد العسكرية البحرية والمنشآت الحيوية الاقتصادية ، وهذا مستبعد بالوقت الحاضر ، أو توكل المهمة لطرف ثالث كإسرائيل لتنفيذ ضربة عسكرية ضد مفاعل بوشهر وهي الفرصة المواتية للكيان الصهيوني ، أو يجدون حلا يصعب للمحللين تقديره ، فمراكز البحوث والمستشارين والخبراء لهم من الخبرة والتجربة والدهاء ما يجعلهم يفاجئون العالم ..ولننتظر
ومن يقول أن الحرب محالة بين امريكا وإيران فله كل الحق عندما ينظر الى الحرب بأنها صواريخ وطائرات ومدافع ، أما من ينظر إليها كصراع بين إرادتين فإنها بدأت بالفعل في هذا الخنق الاقتصادي ..
ويبدو ان الولايات المتحدة الامريكية عندما تنتخب رئيسا لها في مرحلة ما ، تختاره ليتمكن بالفعل من تنفيذ الاستراتيجية العليا ، فعندما جاءوا ببوش الصغير المتهور ليستخدم القوات المسلحة دون تردد في أفغانستان والعراق ، وعندما جاءوا باوباما المتردد الضعيف ليوقع الاتفاق النووي وسحب القوات من العراق وأفغانستان ، وعندما جاءوا بالتاجر ترمب لينفذ هذه الاستراتيجية الاقتصادية . والله اعلم