الكعك المقدسي.. ملك الموائد الصباحيّة والإفطارات الشهيّة
له سحره الخاص، فمذاقه اللذيذ ورائحته النفّاذة المشبعة بطعم الحنين إلى أيام الزمن الجميل
"أبو عمار" كان يوصي بإحضاره لتونس والراحل الحسيني حرص على تناوله بمنزله
حسام: ترامب سيذهب في حين سيبقى كعك القدس يخرج من التنور المقدسي
الانباط ـ "القدس" دوت كوم
للكعك المقدسي سحره الخاص، فمذاقه اللذيذ ورائحته النفّاذة المشبعة بطعم الحنين إلى أيام الزمن الجميل، تشي بالكثير عن المكان الذي شهد مسرى سيّد الخلق ومعراجه إلى سدرة المنتهى، فبارك الله فيه وحوله، وجعله مقصدًا للمؤمنين، ورباطًا لهم إلى يوم الدين.
العجينة بأشكالها وتكويناتها وقوالبها والتواءاتها، والمكوّنة من الطحين والخميرة والسكر والسمسم، تستحيل سحرًا يأسر العيون، وهي تخرج من جوف اللهب، قبل أن تجد طريقها لأفواه الجائعين الذين ينتظرونها على أحرّ من جمر التنور.
وعلى حواف اللهب الطالع من بطن التنور، تنهض قصص وحكايات يعجّ بها المكان الذي بات مقصدًا للعمّال والسائحين والمصلين في الغدو والآصال.
ويرى مهدي أمين العجلوني، وهو واحد من أصحاب "فرن ومخبز الأمين" في حي المصرارة، أن الكعك المقدسي يشكل هُويّة البلد وتراثه، وأن طعمه ونكهته مرتبط بأهمية القدس ونقاء مائها المتدفق من بئر الأقصى والحجر القديم، إذ يكتسب روح الحياة الممتزج بنار الحطب المشتعل في بيت النار العربي الذي يحفظ طعم السيرج الأصلي المخبوء داخل حبّات السمسم.
ويقول، إن المذاق المميّز للكعك المقدسي دفع إحدى الجهات لتصميم تطبيق خاص عن الكعك ومأكولات المدينة التراثية، للترويج له في بلدان أوروبية.
ويختلف طعم الكعك إذا ما استخدم السمسم المستورد في خبيزه، فسمسم البلدة القديمة يكسب الكعك طعمه الخاص ونكهته المميزة، فالكعكعة التي تخرج من المدينة تكون مقدسيّة الماء والهواء.
ويستذكر العجلوني حكاية "الخواجا شلومو" الذي جاء قبل سنين ليشتري كميات كبيرة من كعك القدس لبيعها في إحدى المونديالات، لنكتشف لاحقًا أن شلومو عمل على ان يتعرف على سرّ الصنعة لتقليد صناعة الكعك المقدسي ولكنّه مني بفشل ذريع، وكذلك الحال مع كثيرين حاولوا الشيء نفسه دون تحقيق أي نجاح، رغم استخدامهم نفس المواد والعناصر المكونة له.
وإلى جانب الكعك بالسمسم، فإن أفران القدس تنتج الكعك بالعجوة وخبز الوردة و"السمون العربي"، وخبز الحمام حيث يزيد الطلب على تلك الأصناف في شهر رمضان مثلًا، في حين تبقى البرازق والسجق، وأقراص البيض، وصواني اللحمة، والبطاطا المحمرة، والفخارات الشهية، والمعجنات التراثية، بمختلف أنواعها ومكوناتها من زيت وزعتر وريانة وأقراص سبانخ وغيرها، أميرات بجانب الكعكة، عروس القدس.
وشهد فرن الرّازم في حارة السعدية، تصوير أحداث درامية لمسلسل "باب العامود" الذي يروي فيه حكايات البلدة القديمة العابقة بالتاريخ والزمن الجميل. كما أنتج الفنان محمد القزاز فيلمًا بعنوان "نص كعكة" جرت أحداثه في مخبز في باب حطة في الطريق إلى الحرم الشريف، يظهر عملية صناعة الكعك من الألف إلى الياء.
ويستذكر أبو مصعب قصة المختار من حارة النصارى، الذي حاول إغراءه بفتح مخبز للكعك في أمريكا على حسابه الخاص، في حين يقدّم هو خبرته في فن الصناعة المقدسية، إلا أنه رفض هذا العرض المغري، لأنّه مقتنع أن الكعك خارج القدس لن يكون بذات النكهة والمذاق الساحر مثلما هو داخلها، وهناك العديد من المسافرين الذين يأتون إلى المدينة المقدسة، ليملأوا حقائبهم بالكعك بعد تجميده ليكون حاضرًا على موائد إفطاراتهم الشهية لأيام طويلة، لعشقهم لذلك الكعك الذي لا مثيل له.
وبمراقبة فوهة التنور، ما أن تدخل العجينة البيضاء إلى بيت النار حتى تخرج منه حمراء من غير سوء "مقرمشة " تأسر الناظرين، وتفتح شهية العاشقين لتناول الكعك مع الفلافل والبيض بحضور الشاي بالنعناع على مائدة الإفطار.
في البلدة القديمة من القدس، ثلاثة أفران في حارة السعدية، ورابع في حارة النصارى، أمّا خارج السور، فإن "فرن ومخبز المصرارة" و"فرن ومخبز الأمين" يعتبران من أشهر الأفران قرب باب العامود، إضافة إلى "فرن التنور" المعروف في وادي الجوز.
ويتمسّك المسن محمد علي أبو علي (82 عامًا)، بفرنه الأثري القديم الواقع في أحد أزقة حارة السعدية، إذ وَرِثه عن أجداده منذ 300 عام، ويصف عشق السياح للكعك المقدسي بـ"المدهش"، إذ يتقاطرون إليه طلبًا لأقراص السجق والبيض، بيد أن الشيخ الثمانيني لم يخف تحسّره على ذهاب أيام العز بسبب الضائقة الاقتصادية التي تعانيها المدينة.
"أعط خبزك للفرّان"، من عالم الكعك والعيش، والأفران والصواني جاء المثل العنوان، إذ اعتاد أهل المدينة المقدسة على إرسال صواني اللّحمة، وما يعدّونه من أطباق بيتية إلى الأفران لتطهى على اللهب الطالع من الحطب ما يكسبها الطعم الشهيّ، ولو أكل الفرّان نصفها، في دلالة على مذاق الطعام الشهي، عندما ينضج على نار هادئة في قلب التّنور.
وتصعب الإحاطة بقصص وحكايات رجال السياسة والصحافة مع الكعك المقدسي،
بيد أنه يمكن استعراض تلك القصص التي كانت مقار الصحف اليومية الثلاث "القدس" و"الفجر" و"الشعب" ساحاتها في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كانت موائد الكعك الليلية تفترش مكاتب التحرير ومكاتب الصف والتنضيد في المطابع، مع صدور الطبعات الأولى للصحف مع صياح الديك.
ويقول الكاتب حمدي فراج " كنت أحرص على تناول الإفطار في القدس قبل نحو ثلاثة عقود إذ كنت حينها أدرس في مدرسة دار الأيتام"، وكنت دائمًا أحرص أن أجلب بعضًا من الكعك والفلافل لوالدتي التي كانت تميّزه عن باقي الكعك وتقول إنه مبارك ببركة الأقصى، "فكل شيء من القدس يختلف طعمه".
ويروي اسحاق القواسمي، أن الراحل فيصل الحسيني كان يحرص على تناول الكعك في منزله بأريحا أو عين سينيا، إذ كان يوصي بإحضار الكعك المقدسي، ولم يكن يتركنا نذهب قبل تناول الكعك وهو يقسّمه علينا بيديه مع الفلافل والبيض المشوي.
ويقال إن الوفد الفلسطيني الذي توجّه إلى مدريد مطلع تسعينيات القرن الماضي، اصطحب معه كمية من الكعك المقدسي، كما أن أبو عمار كان يوصي بإحضار الكعك إلى مقرّه في العاصمة التونسية.
الفنان المقدسي حسام أبو عيشة أصر على أن يكون فرن عودة بالقدس العتيقة مكانًا لإجراء مقابلة مع التلفزيون الألماني، حول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبعد أن تناول طاقم التلفزيون الكعك المقدسي اللذيذ. قال لهم حسام: "كعك القدس أطول عمرًا من عشرة رؤساء أمريكيين مجتمعين، سيذهب ترامب كما ذهب من قبله في حين سيبقى كعك القدس يخرج من التنور المقدسي، فكعك القدس رمز المدينة الخالدة الباقية عربية الوجه واليد واللسان على مدى الزمان، ما ادهش طاقم التلفزيون الألماني.
ويعتقد أبو طارق حامد من فرن ومخبز المصرارة، "أن جذور الكعك ربما تعود إلى عهد الناصر صلاح الدين محرر القدس، ويؤكد أنه لا يمكن تصور القدس بدون كعكها التراثي الذي بات جزءًا من هويتها.
ويتذكر أبو حازم أبو اسنينة، كيف أن أجداده كانوا يعملون في نفس الفرن منذ نحو مئة عام، وأن أهل الشمال ما زالوا مغرمين بالكعكة المدورة، كما أن مجموعات كبيرة من أهل غزة كانوا يبتاعون كميات كبيرة من الكعك المقدسي ويأخذونها إلى غزة.
"أصابتني الدهشىة" هكذا وصفت الفنانة المقدسية سماح ياسين مشاعرها عندما شاهدت صورة فوتوغرافية على "الانترنت" لبائع الكعك، فرسمتها لوحة فنية ناطقة بريشتها مضفية عليها عناصر خاصة من عبق القدس وعراقتها ورائحتها المميزة، واعتبرت الرسّامة أن بائع الكعك أو فرن الكعك هو رمز حضاري وثقافي إذ تفاجأت من الصدى الواسع الذي حظيت به اللوحة الفنية خصوصًا من قبل المغتربين الفلسطينيين والعرب.
يبيع كعك القدس منذ (55 عامًا)، إنه البائع الأشهر في القدس، أبو علي ابو اسنينة، إذ استقر به المقام في منطقة باب الساهرة مقابل بريد القدس. يعد من الباعة النشطين والمثابرين، تجول في شوارع القدس وضواحيها المختلفة يدفع عربة أطفال عليها طرحة أو يحمل طبلية الكعك على رأسه، ثم العربة الأكبر، حتى وصل إلى بسطة الكعك المشهورة في باب الساهرة.
ويقول أبو علي "كانت أيام الكعك زمان حلوة يتناول الناس الكعك في الأعياد، أو يأتون من قرى القدس البعيدة والقريبة يبتاعونه بلهفة وشوق وكأنهم يحصلون على خبز الجنة".
تعجُّ جعبة بائع الكعك حسين نصار في باب العامود بحكايات الكعك المقدسي، إذ كان يساعد والده الراحل مذ كان طفلًا، ويقول إن هناك من يطلب الكعك وهو في أمريكا، كما حصل قبل فترة مع مواطنة أمريكية من مدينة شيكاغو في ولاية الينوي، فأرسل لها كمية من الكعك المقدسي عبر طرد إلى أعالي البحار، بعد ما سمع أنّ نتنياهو قام بتقديم الكعك المقدسي للرئيس الأمريكي ترامب في زيارته الأخيرة إلى القدس، على أساس أنه كعك إسرائيلي اسمه "بيغله يورشالمي".
ويروي نصار أن الراحل أبو عمار كان يعشق إلى جانب كعك القدس برازق القدس، ويسميها "مقرمشات مقدسية".
ويتفاعل بائع الكعك نصار مع صديق عمره نائل سيد أحمد "جار الرضا" من حي المصرارة كما يسميه، وهو يذكّره "بنهفة" الكعكة التي بقيت ثلاثة أيام على الطبلية قبل حرب 1967 دون أن تباع إلى أن جاء مواطن لبناني من بيروت، فكانت من نصيبه، وكيف قضمها بتلذذ.
يقول الفران الشويكي، وهو من أقدم الخبازين للكعك في المدينة المقدسة، إن نصر الدين أبو اسنينة هو "صاحب براءة الاختراع" للكعكة الطويلة المستطيلة إذ يقع فرنه في البلدة القديمة بشارع الواد حي القرمي وقناطر خضير قبل أكثر من 40 عامًا. وبعدها صار جميع "الفرّانة" يقلدوّنه. وأن يوم الجمعة هو اليوم المشهود للكعك إذ يتم بيع نحو ستة آلاف كعكة من فرن واحد، إنّه إفطار يوميّ شهيّ للكبير والصغير للغني والفقير، ويوم عيد الفطر هو يوم الكعك بلا منازع، إذ نشاهد المئات يرتدون ملابس العيد وهم يقضمون الكعك بنهم.