الاستفادة من مخلفات المأكولات البحرية لإيجاد مشاريع اقتصادية
الأنباط - العقبة - د. نهاية القاسم
تعد المأكولات البحرية أكثر الأطباق التي يقبل عليها الناس نظرا للقيمة الغذائية التي تحويها هذه الأصناف من الأطعمة ، وفي البلدان النامية تعد من أكثر الوجبات ارتفاعا في الأسعار، ربما لندرة بعض الأصناف البحرية مثل الجمبري أو القريدس، إضافة الى الحلزون وبعض أنواع السرطان البحري. وكالعادة فإن تناول هذه الأطباق من قبل الناس يترتب عليه وجود مخلفات لهذه الأطعمة والتي عادة ما يتم التخلص منها بإلقائها في حاويات النفايات، لتصبح مصدرا غذائيا للقطط والكلاب الضالة.
وبينما تتخلص الدول النامية من مخلفات وقشور وهياكل الأطعمة البحرية بإلقائها في مكب النفايات أو البحر، تتكبد الدول المتقدمة مبالغ كبيرة في التخلص منها، إذ تصل تكلفة التخلص من الطن الواحد في أستراليا على سبيل المثال إلى 150 دولارًا.
إذ تحتوي قشور المأكولات البحرية على عناصر كيميائية مفيدة للغاية، تتمثل في البروتين، وكربونات الكالسيوم، ومركب الكيتين، وهو بوليمر يشبه السليولوز، غير أنه غني بالنيتروجين، ويغفل كثيرون عن القيمة المحتملة لقشور وهياكل المأكولات البحرية في الصناعات الكيماوية. ويجدر بالعلماء أن يعملوا على اكتشاف طرق مستدامة لتكرير الهياكل القشرية، واستخلاص المواد منها، كما ينبغي على الحكومات والشركات الصناعية الخاصة الاستثمار في استغلال الكميات الوفيرة والرخيصة من هذا المورد المتجدد.
يتراوح سعر الطن الواحد المجفف من قشور وهياكل الجمبري ما بين 100 و120 دولارًا فقط، ويمكن طحن هذه القشور، واستخدام المسحوق كمكمِّل غذائي لعلف الحيوانات، أو كطُعْم للسمك، أو كأسمدة، أو استخدامه في إنتاج مركب الكايتين. والعائد ليس كبيرًا، مقارنةً بالمخلفات، والبقايا الزراعية، فحطب الذرة، وقش القمح، اللذان يُحرقان؛ لتوليد الحرارة، أو يجري تكريرهما؛ لتحويلهما إلى مواد كيميائية، يباعان بسعر يتراوح ما بين 50 و90 دولارًا للطن الواحد. وتحتوي القشريات البحرية على البروتين بنسبة تتراوح بين %20 و%40، وعلى كربونات الكالسيوم بنسبة تتفاوت بين %20 و%50، وعلى مركب الكايتين بنسبة تتفاوت ما بين %15 و%40. فما هي استخدامات هذه المكونات؟
البروتين يُستخدَم في علف الحيوانات. فعلى سبيل المثال، يحتوي قشر الجمبري من فصيلة «بينايوس» على كل الأحماض الأمينية الأساسية، وبه قيمة غذائية تضاهي وجبة من فول الصويا. ولا يستخدم البروتين في الوقت الحالي، لأن طرق المعالجة الحالية تدمره. ومع التنامي السريع لتربية الماشية، من الممكن تحويل هياكل وقشور الأطعمة البحرية من جنوب شرق آسيا إلى علف غني بالبروتينات للحيوانات. وتقدِّر بيانات البنك الدولي القيمة السنوية لهذا السوق بأكثر من 100 مليون دولار.
إن مادة كربونات الكالسيوم لها عدة استخدامات في صناعات الأدوية، والزراعة، والإنشاء ، والورق. وحاليًّا يتم استخراجها من مصادر جيولوجية، مثل الرخام، والحجر الجيري. وهذه المصادر وفيرة، ولكنها قد تحتوي على معادن ثقيلة، تتعذر إزالتها. ولهذا يُعتبر مسحوق الطباشير المستمدّ من قشور الأطعمة البحرية أفضل للاستهلاك البشري، فعلى سبيل المثال يُستخدم كأحد مكونات أقراص الدواء، حيث يقبل الناس بسهولة تعاطي الأقراص المصنوعة من مصادر غذائية، ويفضلونها على الأقراص المصنوعة من مواد مستمَدَّة من الصخور.
يتراوح سعر السوق لكربونات الكالسيوم المطحونة ما بين 60 و66 دولارًا للطن الواحد من الحبيبات الخشنة، التي تُستخدم في الإنشاء، والأصباغ، وأجهزة الحشو، ومعالجات التربة. أما الحبيبات فائقة النعومة التي يمكن استخدامها في تحسين خصائص المطاط والبلاستيك، فيصل سعرها إلى 14 ألف دولار للطن الواحد. ولو اقتصر تحويل كربونات الكالسيوم من قشور الأطعمة البحرية في جنوب شرق آسيا على أرخص الحبيبات الخشنة، فإنها ستبني سوقًا سنويًّا قيمته 45 مليون دولار.
الكايتين هو بوليمر خطي، وهو ثاني أكثر البوليمرات الحيوية الطبيعية وفرة على الأرض (بعد السليولوز)، ويتوفر في الفطريات، والعوالق، والهياكل الخارجية للحشرات، وقشريات الكائنات البحرية. وتنتج الكائنات الحية نحو 100 مليار طن من مركب الكايتين سنويّا. ويُستخدم مركب الكايتين، ومركب كيتوسان المشتق منه الذي يذوب في الماء في عدد قليل من الصناعات الكيماوية، مثل منتجات التجميل، والمنسوجات، ومعالجة المياه، والطب الحيوي، وله إمكانيات أكبر من ذلك بكثير.
بعكس الأشكال الأخرى من الكتل الحيوية، مثل مركب السليولوز، فإن مركب الكيتين غني بالنيتروجين. وتمثِّل المركبات الأخرى الغنية بالنيتروجين أهمية بالغة في الحياة الحديثة، فهي تُستخدم على نطاق واسع في صناعة الأدوية، وتثبيت ثاني أكسيد الكربون، والمنسوجات، وغير ذلك. فعلى سبيل المثال.. يدخل مركب بيرازين العضوي الغني بالنيتروجين كعنصر أساسي في العديد من الأدوية عالية معدَّل البيع، مثل مركب إيسزوبيكلون لعلاج اضطرابات النوم، ومركب فارينيكلين لعلاج إدمان النيكوتين. ويُستخدم مركب إيثانولامين في محطات توليد الطاقة لعزل ثاني أكسيد الكربون، وأيضًا في تصنيع منتجات الصابون اللطيفة على البشرة، وتصنيع المنظفات المنزلية، ومركبات تخفيض التوتر السطحي. وتحظى العناصر الكيماوية الغنية بالنيتروجين بمجال هائل للتسويق، إذ يُستخدم نحو مليوني طن من مركب إيثانولامين سنويًّا في جميع أنحاء العالم3، ويصل حجم المبيعات إلى 3.5 مليار دولار.
يعتمد الإنتاج الصناعي لمركبات النيتروجين على الوقود الأحفوري، وعمليات تحويل مُستهلِكة للطاقة: في البداية يجب تحويل غاز النيتروجين إلى أمونيا من خلال تفاعل عملية هابر، التي تشتهر بارتفاع استهلاكها للطاقة، إذ تستأثر وحدها بنحو %2 إلى %3 من استهلاك الطاقة العالمي. ومقابل استهلاك كل مول واحد من غاز النيتروجين، يُستهلك ثلاثة مولات من غاز الهيدروجين المستمَد من الوقود الأحفوري.
تتسم عمليات التصنيع التالية بشدة تعقيدها وارتفاع تكلفتها. فعلى سبيل المثال يتطلب إنتاج مركب إيثانولامين 6 خطوات: إنتاج الهيدروجين من الفحم أو الغاز الطبيعي، ثم عزل النيتروجين من الهواء، ثم تركيب الأمونيا، ثم إنتاج مادة الإيثيلين من تكسير النفط الخام، ثم تحويل مادة الإيثيلين إلى مادة أكسيد الإيثيلين، ثم تحويل مادة أكسيد الإيثيلين إلى مركب إيثانولامين. وقد يكون مركب الكايتين نقطة بداية أكثر ملاءمة لإنتاج مركب إيثانولامين، فنظرًا إلى أن البوليمر غني بالكربون، والنيتروجين، والأكسجين، يتطلب الأمر خطوة تحويل واحدة فقط لإنتاج مركب إيثانولامين. ويمكن اشتقاق خمسة عناصر كيميائية من مركب الكيتين دفعة واحدة، والقائمة تزداد طولًا.
التحديات الكيميائية
إن استخراج العناصر الكيميائية من مخلفات القشريات البحرية بالطرق الحالية هو عملية مدمرة للبيئة، ومهدرة للموارد، وباهظة التكلفة؛ فهي تتطلب فصل المكونات المختلفة، وهي عملية معروفة باسم التجزئة، إذ يتم استخلاص البروتين باستخدام محلول هيدروكسيد الصوديوم، أما استخلاص كربونات الكالسيوم، فيتطلب حمض الهيدروكلوريك، وكلاهما من المذيبات الخطيرة المسبِّبة للتآكل. ولاستخلاص مركب كيتوسان، يتطلب الأمر معالجة مركب الكايتين بمحلول هيدروكسيد الصوديوم بنسبة تركيز %40، حيث إن إنتاج كيلوجرام واحد من مركب كيتوسان من قشور الجمبري يستهلك أكثر من طن من الماء.
نتيجة لذلك يصل سعر مركب الكايتين عالي الجودة إلى 200 دولار للكيلوجرام الواحد، برغم أن المواد الأولية رخيصة. وبرغم أن حجم الاستهلاك الصناعي العالمي من مركب الكايتين الذي تم تكريره ـ في صناعات الأغشية، وإنتاج الأدوية، والأغذية، ومنتجات التجميل ـ منخفض للغاية، إلا أنه لا يزيد على 10 آلاف طن سنويًّا3. ويوجد عدد قليل من مصانع مركب الكايتين في الصين، واليابان، وتايلاند، وإندونيسيا. ويمثل تحويل مركب الكايتين، أو مركب كيتوسان، إلى عناصر كيميائية أخرى مشكلات كثيرة. فمركب الكايتين الطبيعي هو مادة بلورية تمنع الكواشف من الوصول إلى السلاسل البوليمرية بسهولة. وفي ظروف التفاعل القاسية، تخضع السلاسل لتفاعلات جانبية، وتشكل العديد من المركبات المعقدة. وغالبًا ما يكون فصل المنتجات الحيوية من المفاعل عملية مرهقة وصعبة. إن قشريات سرطان البحر تحتوي على مركب الكايتين الغني بالنيتروجين، الذي يستخدم في صناعة الأدوية.
صناعة الأدوية
أن هذه التحديات والصعوبات لا تزيد عن مثيلاتها الموجودة عند تحويل كتلة الخشب الحيوية إلى وقود حيوي، وغيره من العناصر الكيمائية، وهي العملية التي استغرقت عقدين كاملين، حتى تنتقل من المختبر إلى الاستخدام التجاري على نطاق واسع. ولذلك ستحتاج إقامة صناعة مستدامة مربحة من مخلفات القشريات البحرية إلى مزيد من الابتكار في عمليات التحويل الكيميائية، إذ يتطلب الأمر طريقة مستدامة للتجزئة والتكسير لفصل البروتينات، وكربونات الكالسيوم، ومركب الكيتين، بحيث تتجنب استخدام عوامل خطيرة مسبِّبة التآكل، وتقلل حجم المخلفات والهدر أو الاستنزاف.
بدأت بالفعل تقنيات جديدة في الظهور، فعلى سبيل المثال عرضت فرق الباحثين في المكسيك والمملكة المتحدة عملية تخمير، تَستخدم حمض اللاكتيك في إنتاج مركب الكايتين في المختبر، وفي مصنع تجريبي في بداية الألفية 5,6 . وقد حوَّلت هذه العملية 30-50 كيلوجرامًا من مخلفات القشريات البحرية في مفاعل واحد. وقد أَعَدّ الباحثون في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والصين6-8 مزيجًا من البكتيريا التي تستهلك البروتينات، وتحلل كربونات الكالسيوم. ومن المنتجات الفرعية لهذه العملية مركب هيدروليتات البروتين، ومركب لاكتات الكالسيوم، وهما مُنْتَجان مفيدان في علف الحيوانات ومكمِّلات الكالسيوم.
التكسير
تُوجد طريقة أخرى وهي تصميم واستخدام السوائل الأيونية ـ وهي المركبات العضوية السائلة مع فئات وظيفية أيونية ـ التي يمكنها تذويب البوليمرات الكربوهيدراتية، واستخراج مركب الكايتين. وتتميز بوليمرات الكايتين المستخلصة بهذه الطريقة بسلاسل طويلة ووزن جزيئي مرتفع، ويمكن على سبيل المثال غزلها كألياف وشرائح لتغطية الجروح، ولمعالجة المياه.
على الباحثين استكشاف طرق مادية خالية من المذيبات، لتكسير وتجزئة القشريات والهياكل القشرية. فيمكن استخدام الطحن بالكرات ـ أي وضع المواد مع كرات معدنية في أسطوانات دوّارة ـ بغرض طحن الهياكل القشرية، وتنعيمها، وتكسير البلورات. وقد يثبت المزج بين القوى الكيميائية والميكانيكية أن له مزايا متعددة. فعلى سبيل المثال.. استخدام الطحن بالكرات المعدنية مع محفِّز حمضي قد يؤدي إلى تفكيك الخشب، دون تسخين، حيث إن مزج الانفجار البخاري أي استخدام البخار فائق السخونة، ثم إطلاق الضغط بصورة مفاجئة مع استخدام الأحماض يُعتبر وسيلة أخرى لتحرير مكونات القشريات البحرية.
يُستخدَم الطحن بالكرات والانفجار البخاري في تكرير كتل الخشب الحيوية على نطاق تجريبي، ولكن عدد قليل من الباحثين هم الذين أدركوا جدوى استخدام هذه الأساليب مع القشور البحرية.
تتطور عمليات تحويل مركب الكايتين إلى كيماويات غنية بالنيتروجين، مثل مشتقات مركب إيثانولامين ومشتقات المذيب العضوي واسع الاستخدام المسمى فوران بشكل متسارع، وهذا برغم أنها لا تزال في مراحلها الأولى. وربما يتطلب الأمر 5 سنوات على الأقل لتوسيع نطاق العملية، ثم 10 سنوات أخرى لتسويقها تجاريًّا. ويجدر بالدراسات في المستقبل استكشاف مسارات تحويل مركب الكايتين إلى الكيماويات الأخرى، وتحسين المنتجات من خلال تحسين المحفزات، والمعالجات الأولية، وتسهيل فصل المنتجات.
يقترح إنشاء خط للمعالجة لتكرير مخلفات القشريات البحرية على غرار فصل الكتل الخشبية ـ التي تتكون بشكل أساسي من مركب السليولوز، ومركب هيميسيليولوز، ومركب لجنين ـ وتحويلها إلى عدد من المنتجات في منشأة واحدة10. ويتطلب هذا التطور تضافر جهود العديد من الأطراف التي يحركها القلق العام حول أمن الطاقة، والتغير المناخي. كما يستلزم هذا التعاون دعمًا ماليًّا من الحكومات والشركات المتخصصة في تصنيع الكيماويات والوقود. وستغدو مصانع التكرير الحيوي لمخلفات القشريات البحرية فرصًا صناعية جديدة في العالم. ولهذا فالدعم القوي من صناع القرار، والمؤسسات البحثية، والحكومات، وجهات التمويل، والجمهور، أمر لا غنى عنه. والأبحاث الأساسية من العلماء في جميع أنحاء العالم مطلوبة بشكل عاجل؛ للتغلب على الصعوبات التقنية.
تكرير القشور
ينبغي في السنوات القادمة إطلاق مشروع بتكلفة تبلغ عدة ملايين من الدولارات، بغرض إنشاء أول خط تصنيع يَستخدم التكنولوجيا الجديدة. وينبغي أن تقوم حكومات الدول الغنية بالمخلفات من قشور الكائنات البحرية بدعم المشروع، وأن يقوم على تنفيذه باحثون ذوو خبرات متكاملة في مجالات التحفيز الكيميائي، وعلوم وهندسة المواد، وعلوم الأغذية، وتقييم دورة الحياة. كما ينبغي على الشركات ـ التي تنتج السمك القشري وتتاجر فيه، وكذلك الشركات المرتبطة بالسلع الحيوية والمواد الحيوية، وغيرها من الشركات التي تروِّج للمواد المتجددة ـ أن تقيم الأسواق المحتملة لمصانع تكرير المخلفات القشرية المربحة والصديقة للبيئة، كما ينبغي لها أن تركز على القيام بالمزيد من الأبحاث؛ لطرح التقنيات الجديدة على المستوى التجاري. وخلال السنوات العشر المقبلة، ينبغي فَرْض تشريعات صارمة على طرق التخلص من مخلفات القشريات البحرية، مع تقديم حوافز للشركات التي تستخدمها.//