إعلام الأزمات .. كيف يُدار ؟
طارت الأرواح الطاهرة إلى حيث باريها، ونحتسبها عند الله تعالى "حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهد". طارت أرواح الأبرياء وتركت وراءها الأرض ومن عليها: تركت وطناً كاملاً حزيناً على ما أصابهم. وتركت انسانية تسير وراء تحقيق مستقبل أفضل لأجيالها. وتركت بيوتاً وأولياء أمور حزانى باكين بحرقة، ويتمنون لو أن ما حصل كان كابوساً وحلماً مزعجاً فقط.
وتركت إدارات هنا وهناك رسمية وتربوية وشعبية، تحاول أولاً التنصل من أي مسؤولية، وان تطلب الأمر مدّ اصبع الاتهام إلى الجهة الأضعف أو الأقل قدراً، وتريد ان تضع محاذير للقابل من الايام ، وبالاخص في فصل الشتاء العنيف.
طارت الأرواح وتركت لنا الفضائيات والمواقع الالكترونية والنقاشات، والتحاليل والتقارير والصور الحصرية، وتبادل الضيوف والمسؤولين والمحللين من فضائية إلى أخرى. ويبقى السؤال: اعلام الأزمات، كيف يُدار؟
من الساعة الأولى، ابتدأ تحميل المسؤولية، وتبادل الاتهامات وكان الأجدر أن يكون الهم الأول انتظار ما تقوم به الأجهزة المعنية من محاولة لإنقاذ البشر العالقين بين الصخور وفي قلب المياه. وابتدأ مسلسل نشر الوثائق: الرحلة كيف تشكلت ومين وقع عالكتاب ؟ والتربية كيف ترد بالموافقة على مكان آخر غير المكان المطلوب (حيث أصبح اللغط بين الأزرق وزرقاء ماعين). وبالعربي "انعجقنا بسواليف كثيرة"، ونسينا الهم الأساسي انّ فرق الرحمة والدفاع المدني كانت مهمومة بفصل الضحايا بين متوف وناج، ونسينا أن الانسان في خطر، والطفولة في خطر حقيقي. كان علينا أن ننتظر كثيراً قبل أن نبدأ بالاتهامات والتحاليل واغراق وسائل التواصل بكل ذلك المجهود الذي خلا وحتى في بعض تغريدات المسؤولين، من الحقيقة والتنسيق والشعور الحقيقي بالمسؤولية.
اجتمعت قبل أيام مع الزميلة الصحافية سهير جرادات، وكانت عائدة من بلد عربي شقيق بعد اشرافها على تدريب مجموعة من الاعلاميين حول "دور الاعلام في ادارة الأزمات"، وشرحت لي بإسهاب عن الأمر الذي يتعدى كونه مزحاً أو نقلاً أو دحضاً للإشاعات ، انه اعلام الوطن والأمن الوطني والسلامة العامة.
وقد تذكرت كلامها بعد أن حدث ما حدث من مصيبة كبيرة، فتبين لدي أننا بعيدون كل البُعد عن الإعلام الجدي :" إعلام الأزمات " ، والذي يقوم على الاعتراف بوجود الازمة ، وعدم أنكارها ومواجهتا واحتوائها ، البعيد عن الصمت او التكتيم ، وأظهارها بحجمها الطبيعي ، من خلال التشاركية بين الاعلام والجهات المختصة القائمة على الثقة التامة ، لتوجية الرسالة الإعلامية الصحيحة، مع مراعاة أن التصريح لوسائل الاعلام بمعلومات أو بيانات غير صحيحة، أو التهرب أو الامتناع من الإجابة على أسئلة معينة يأتي بنتائج عكسية غير مرغوب فيها.
كم نحن بحاجة إلى تهيئة كوادر اعلامية تتخذ حتى من عدد الجرحى والمصابين رقماً رسمياً يطلق عليه موكل رسمي بنقل المعلومة الصحيحة والسليمة. ولا يجوز أن يكون أي مراسل ، لمجرد كونه يعمل في " المنطقة الجغرافية" أو مسرح الحادث ، مراسلا في الازمات ، فلهذه مهنيّتها وطريقة التعامل بفترة الطوارئ. اعلام الازمات هو تنسيق وبيانات رسمية ، ودقة في ايصال المعلومة الصحيحة، وعدم ايراد اي رقم للضحايا بدون تأكد من صحة الخبر والعدد.
فنحن لا نتعامل مع ارقام، بل مع أشخاص تحت الانقاض، ووراءهم أشخاص مثقلون بالهم والاسى والاحزان.
في الساعات الاولى ، كان المستشفى مكتظاً، وكان أحد الوزراء يمازح الاعلاميين: "أوهوه" ما بكفيكم، حكيت كثير اليوم ؟ وكأن اليوم شبيه بالامس. ويرضخ بالاخير ضاحكا : يالله سؤال واحد فقط. هذا ليس تنسيقاً اعلامياً، وليس مع الأسف شعوراً بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعاً، في أن يكون لدينا اعلام جاد: اعلام إدارة الأزمة والتواصل مع الجمهور بطريقة جدية ومهنية ودقيقة ولا تخلو طبعا من الانسانية.
abouna.org@gmail.com