يا ربَّ الماء!

"وجعلنا من الماء كل شيء حي". "وكان عرشه على الماء".

ليس أصعب من الكتابة عن مصيبتنا في البحر الميت إلا عدم الكتابة! نحن الذين نحتفي بالماء على نحو يزيد على جميع أمم العالم، لكننا ورغم ذلك نبدو اليوم وكأننا لم نعد نعرف الماء، ولا نعرف أن المطر حين يسقط يتجمع في السيول والأودية.

هل أفقدتنا الحياة المعاصرة المعرفة الحقيقية والعملية للطبيعة؟ لقد ظلت الطبيعة على الدوام لدى جميع الأمم كيانا عاقلا له قوانينه وسننه التي لا يجوز مناطحتها، وإذا منحت التكنولوجيا الحديثة فرصة أو قدرة على تحدي الطبيعة، فإنه يظل في ذلك يدفع الثمن غاليا بلا فائدة، فالأودية في الحياة والتراث تملك حرما "حرم الوادي" الذي لا يجوز الاعتداء عليه، وما نفعله في مدننا وحياتنا من تجاهل أو تحدّ للطبيعة والسيول ومجاري الماء كان على الدوام سببا في المعاناة والخسائر، ولا يكاد يخلو عام من الأعوام إلا ونخسر أرواحا كثيرة بسبب هذا التجاهل أو التحدي للطبيعة! ففي كل عام تقريبا تجرف السيول مواطنين أو تغرق بيوتا تبنى في الأودية، وفي كل عام تغص شوارع المدن وشبكاتها بالماء، أو تسدها الأتربة والحجارة بسبب عدم أخذ الطبيعة ومجاري الماء وسيولها بالاعتبار والتخطيط الحضري.

وقد كتبت في "الغد" في 8 تشرين الأول 2009 معلقا على السيول التي جرت في عمان بسبب المطر وأغرقت عائلة تقيم في طابق تسوية لإحدى العمارات "المطر يسقط من السماء ويجري في السيول" إي والله إنه يسقط في الشتاء، ويمكن ويحدث ذلك كثيرا أن يسقط بغزارة فيسيل إلى المناطق المنخفضة، ويسلك في مجار وأودية وسيول، كيف يقتنع الناس بهذه الحقيقة؟ ومن يستطيع أن يثبتها في عقول ونفوس المسؤولين والمخططين والمقاولين؟

في تراثنا القديم والسائد حتى اليوم منحنا ما في وجداننا من توق وحب للماء لكل مظاهر الطبيعة والرموز الدينية والآلهة والأساطير والتراث، الأردن الماء الجاري، وماعين، ومادبا، وسبيل الحوريات، والعزى آلهة الماء، وحداد/ هدد، وظل الماء فكرة ورمزا مقدسا في الأديان الإبراهيمية، العماد، والوضوء والاغتسال، وزمزم، وفي الإسلام فإن ميكال/ ميكائيل رئيس الملائكة الذي لا يتقدمه في المنزلة إلا جبريل يتولى الماء والمطر، وهو نفسه رئيس الملائكة في الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية.

وكما أن العين هي أجمل وأكرم جزء في الإنسان فقد منحنا اسمها لمصادر الماء وللوجوه والسادة (الأعيان).

قصة الحج في الإسلام هي قصة البحث عن الماء، وتتبع السراب في لهفة الأم على الماء وعلى ابنها، وكان "سراب" اسم الناقة التي دارت بسببها حرب البسوس أربعين عاما، و"البسّ" آلهة الطعام والشراب، والعلاقة بين الأم والماء في قصة إسماعيل تشبهها أيضا قصة ولادة المسيح، فقد التجأت أمه مريم إلى نخلة وجعل الله لها عين ماء "فكلي واشربي وقري عينا،.." وتحج الأمم الهندية بعشرات الملايين إلى نهرها المقدس كل عام، ولا يصير المرء صابئيا إلا إذا غطس في الماء الجاري!

يبدو أن الحكومة ستجري تحقيقا في حادثة "الرحلة المدرسية" التي فقدنا فيها أرواحا عزيزة، وأيا كان السبب ومهما كانت نتيجة التحقيق فإن الدرس البديهي المكرر والراسخ على مدى آلاف السنين أننا يجب أن نخطط حياتنا ومدننا وأعمالنا آخذين بالاعتبار قوانين الطبيعة وقوتها، إن ذلك ليس فقط يحمي حياتنا لكنه يزيد ويفعل مواردنا، ويتيح لنا أن نستفيد من الماء العزيز النادر في حياتنا، فعندما نجعل مسارات الماء والأودية مناطق محمية تتحول إلى مناطق جميلة ومفيدة.. وتزودنا بالماء العذب والنظيف.

لأرواح المتوفين السلام والرحمة، ولأسرهم وأهاليهم وللمواطنين جميعا الدعاء والعزاء.

الغد