نزلوا «بالبرشوت» على مناصبهم

كيف تم اختيار الشخص الفلاني لتولي موقع اداري في مؤسسة مهمة (دعك من المناصب السياسية الان ) ، هل صحيح ان نظام التعيين في الدرجات العليا ما زال معمولا به ام انه مجرد واجهة لتمرير القرارات فقط ؟ ليس لدي اجابة واضحة لكن ما يثار دائما حول تعيين اشخاص غير مناسبين واستبعاد اصحاب كفاءات يدفعني الى طرح السؤال للنقاش العام. 

في وقت مضى، التزمت احدى الحكومات بعدم تعيين اي شخص في المواقع المتقدمة الا من خلال امتحان تنافسي تعقده لجنة مستقلة، وقد حظي هذا القرار آنذاك بارتياح عام، لكن سرعان ما جرى تجميد القرار واجتهدت الحكومات اللاحقة في اشهار لجان شبيهة دون ان يجري تفعيلها، ما فتح المجال امام تجاوزات كثيرة، دخل من خلالها بعض الاشخاص الى مواقع وظيفية وفق معايير غير واضحة، وخرج آخرون لأسباب غير مفهومة، الامر الذي اثار جملة من التساؤلات والانتقادات، ودفع - ربما - هيئة مكافحة الفساد ولجنتها التنسيقية الى اعادة التذكير بقضية « المعايير» واعتماد الشفافية اللازمة لاختيار الموظفين وترفيعهم. لكن لا حياة لمن تنادي.

المسألة - بالطبع - لا تقتصر على وظائف الدرجات العليا في الادارة، ولا على الوزارات ايضا، وانما تتجاوزها الى مؤسساتنا الاخرى، والى مختلف المواقع الوظيفية، ولو قُدِّرَ لأحدنا ان يرصد الشكاوى التي يجهر بها الاساتذة في الجامعات، او الموظفون في المؤسسات الحكومية المختلفة، حول معاناتهم من الاجراءات المعتمدة عند التعيين او الترفيع، ومن غياب معايير «الكفاءة» وشيوع المحسوبية والمزاجية لادركنا - حقيقة - حجم هذه المشكلة التي تحولت الى ظاهرة مرعبة، دفعت الكثيرين من اخواننا الى الاحساس بالظلم، او الى البحث في الخارج عن وظيفة تليق بمؤهلاتهم، كما جرحت انتماءهم لمؤسساتهم، وقتلت داخلهم قيم الاتقان والمسؤولية، ورسخت فيهم شكوكا متراكمة حول مبادىء العدالة والمساواة، واشاعت - في اوساط البعض - ثقافة التزلف والنفاق، مما انعكس سلبا على اداء الموظف في اداراتنا العامة، وعلى القيم التي نحاول ترسيخها لدى شبابنا وابنائنا منذ نعومة اظفارهم.

أعرف - تماما - ان الحديث في موضوع انظمة التعيين والمعايير الواجبة للتعيين والترفيع سينكأ جراحا كثيرة لدى قطاع كبير من اخواننا الذين حرموا من فرصة عمل ظنوا انهم الاحق بها او اخرين انتظروا سنوات طويلة واقفين في قطار الامل للوصول الى محطة ما، اعتمادا على كفاءتهم، فذهبت - فجأة - الى آخرين بلا مبرر، او غيرهم ممن ذاق مرارة التهميش والتغييب، او الفصل والاستغناء عن الخدمات، وأعرف - ايضا - ان ثمة قصصا كثيرة يجري تداولها حول مواقع واسماء، سواء في جامعاتنا او وزاراتنا او مؤسساتنا الاخرى، تختزل عناوين صارخة لصورة التجاوزات التي تجري، والممارسات التي تتم، لكن يبقى سؤال العمل هو الاهم.. هل بوسعنا ان نقترح انشاء فرع للهيئة داخل كل مؤسسة لمراقبة القرارات التي تصدر، ومحاسبة المسؤولين عنها اذا ما تجاوزوا صلاحياتهم.

اعتقد ان ما اصاب الادارة العامة في بلادنا من شتى انواع الخلل، وما اصاب اداء مؤسساتنا الاخرى من تراجع، وما طرأ على قيم الوظيفة من انكسارات وتحولات مغشوشة، كان وراءها غياب معايير واضحة ومعلنة لاختيار الموظفين وترفيعهم، ومكافأتهم ومحاسبتهم، على اسس عادلة وبعيدة عن المحسوبية والنفعية الشخصية، وبالتالي فان معالجة هذا الخلل والتراجع لا يمكن ان يتحقق الا اذا استعدنا هذه المعايير، لا من خلال لجان شكلية فقط وانما من خلال ارادة حازمة لا تسمح لأحد ان يسقط «بالبرشوت» على موقع ما، او تحرم شخصا كفؤا من حقه في التعيين او الترفيع، او تترك الميدان لسباق «المحسوبيات» كي يقرر الفائز بدل ان يكون القانون هو الحكم.

الدستور