ما بين العقبة وسنغافورة
الأنباط – العقبة - د. نهاية القاسم
الزائر الى سنغافورة للمرة الأولى يصطدم بجدار من الحر الشديد المصحوب برطوبة شديدة ، لكن ما يميز هذه الدولة الجزيرية الصغيرة الواقعة في بحر الصين الجنوبي أنها مدينة استوائية وارفة تزخر بالخضرة.
سنغافورة دولة ناشئة استقلت منذ 1965 ، ومع ذلك حققت منجزات فاقت ما حققته دول أقدم منها. إنها من الدول الأكثر تقدماً اقتصادياً في العالم وقوة مالية لا يستهان بها.
يختبر زائر سنغافورة ما يسميه البعض بمعنى المدينة التي تحوي أسباب الراحة والمتعة التي توفرها مدن رئيسية حول العالم، لكن مع فرادة سنغافورية. فهي مكان يجمع ثقافات متنوعة يشهد عليها طعام الشوارع المدهش، كما يشكل الأجانب جزءاً كبيراً من سكانها.
المناخ الحار الرطب وفر لهذه الدولة ـ المدينة الصغيرة وسيلة طبيعية لتتحول الى مدينة حدائق لا مدينة إسمنت. عند تأسيسها تخيَّلها رئيس وزرائها الأول لي كوان يو مدينة حدائق. وهي الآن فعلاً هكذا، على رغم اكتظاظها السكاني، حيث يعيش خمسة ملايين نسمة على مساحة 700 كيلومتر مربع. وقد حافظت على اخضرارها بتخصيص 33 كيلومتراً مربعاً من أراضيها للحدائق العامة والمساحات المكشوفة، والواقع أنها تتحول من «مدينة حدائق» الى «مدينة في حديقة».
من أحدث إنجازات سنغافورة الخضراء مشروعها الشهير «حدائق الخليج» في وسط المدينة ، «الأشجار» الأرجوانية العملاقة تهيمن على المكان وتضفي رونقاً خاصاً على خليج مرليون مارينا. ويشرف الزوار على مناظر رائعة من أعاليها وهم يجتازون جسوراً شاهقة تصل ما بين 18 شجرة عملاقة من صنع الإنسان. هذه «الأشجار المتفوقة» كما تدعى تحتجز الطاقة الشمسية لإضاءة ذاتها في عروض ضوئية يومية مدهشة.
تحتل المباني الجزء الأكبر من أي مدينة. وفيما تطمح مدن كثيرة لتصبح أكثر اخضراراً، تجسد الأبنية الخرسانية في سنغافورة الشكل الذي يمكن أن تتخذه «مدينة خضراء». فقد أدخلت أبنية كثيرة خضرة حقيقية في تصاميمها، مستفيدة من المناخ الاستوائي ووفرة الأمطار. ويتم تشجيع المطورين العقاريين على إدخال التكنولوجيات الخضراء في مبانيهم، مثل اللاقطات الشمسية وأنظمة التهوئة المقتصدة بالطاقة، فضلاً عن إقامة حدائق على السطوح أو اعتماد وسائل خلاقة أخرى لإضفاء خضرة طبيعية عليها. المهتمون بفن العمارة يجدون في سنغافورة مكاناً للاستمتاع بتصاميم طليعية نظيفة وخضراء.
قطعت سنغافورة شوطاً كبيراً في إدماج الخضرة ضمن تنظيمها المدني، ما جعلها من المدن الأكثر تقدماً في تطبيقات الطاقة المستدامة. وبتحفيز مواطنيها على أن يكونوا واعين بيئياً، من خلال العديد من المشاريع الوطنية المتنوعة، تحقق سنغافورة حلمها بأن تصبح فعلاً مدينة في حديقة، ولعل مدناً أخرى في العالم تحذو حذوها.
نهضت سنغافورة على مدار 50 عاما من الصفر تقريبا، واستطاعت حكومتها، بفضل قدرتها على توجيه سلوكيات المواطنين وقراراتهم، أن تبني مجتمعا يحظى باحترام وإعجاب العالم.
يحصل مقدمو المأكولات والمشروبات في سنغافورة على منحة مالية إذا وفروا بدائل صحية للزبائن، في إطار برنامج الغذاء الصحي الذي دشنته هيئة الترويج لأنماط الحياة الصحية بسنغافورة. وهذا يعد مثالا على السياسات التي تضعها الحكومة لتوجيه سلوكيات المواطنين لاتخاذ قرارات أفضل.
ومنذ الاحتفال بالذكرى الخمسين لإعلان استقلالها، حرصت حكومة سنغافورة، في ذاك البلد الصغير الذي يقع جنوب شبه جزيرة الملايو، على الانفتاح على العالم الخارجي، للاقتداء بالبلدان الأخرى والتعاون معها لرسم معالم المستقبل.
وتحقيقا لهذه الغاية، تعاونت الحكومة مع فريق مسؤول عما يعرف بـ "الرؤى السلوكية" للمواطنين، الذي يطلق على أفراده اسم "وحدة التحفيز"، المعنية بتطبيق "نظرية التحفيز" على السياسات الحكومية، وهي النظرية التي فاز عنها ريتشارد ثالر بجائزة نوبل.
وتقوم هذه النظرية على فكرة مؤداها أن الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، دون مصادرة حريتهم في الاختيار.
ولفتت " نظرية التحفيز" أنظار الكثير من واضعي السياسات في العالم، لكن سنغافورة تحديدا كانت تتبنى استراتيجيات مشابهة للتأثير على سلوكيات المواطنين من قبل انتشار هذه النظرية بسنوات طويلة، وقد يرجع هذا لأسباب تاريخية.
فمن المعروف أن سنغافورة مضرب المثل في النظام والكفاءة، وفوق ذلك هي المكان الذي يُحظر فيه مضغ العلكة. وغدت اليوم، بعد جهود مضنية، واحدة من المراكز المالية في العالم.
وفي أعقاب طردها من الاتحاد الماليزي، وإعلان استقلالها في عام 1965، وجدت سنغافورة نفسها غارقة في مشكلات اجتماعية واقتصادية كثيرة، علاوة على البطالة وتدني مستوى التعليم والإسكان غير اللائق، وانعدام الموارد الطبيعية وصغر المساحة.
وتولى مهمة النهوض بسنغافورة رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو. إذ أدرك كوان يو أن سنغافورة لن تزدهر إلا بتغيير شامل.
وتم التركيز على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، وهو القضاء تماما على الفساد، والكفاءة، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناء على الجدارة والاستحقاق. ونجحنا".
ودُشنت حملات عامة لغرس حس الانتماء لمجتمع غير متجانس يضم سكان من مختلف الثقافات. ودعت أولى هذه الحملات إلى الحفاظ على نظافة البيئة والصحة العامة، تحت شعارات عديدة، منها "حافظوا على نظافة سنغافورة"، و"ازرعوا الأشجار".
وركزت حملات أخرى على تنظيم الأسرة، وحث الناس على "الامتناع عن الإنجاب بعد طفلين". وفي ظل الانتعاش الاقتصادي، دُشنت الحملة القومية للتأدّب في التعامل مع الآخرين، وحملة أخرى تحث الناس على بناء مجتمع متماسك ومتحضر يراعي كل فرد فيه حقوق ومشاعر الآخرين.
وفي غضون 50 عاما، آتت هذه الاستراتيجية ثمارها، وأشار تقرير للبنك الدولي أن سنغافورة توفر المناخ الأكثر ملاءمة وتشجيعا لمزاولة أنشطة الأعمال في العالم. وبالرغم من أن السنغافوريين لا يزالون يعشقون الحملات الشعبية، إلا أن البلاد تتبنى بشكل منهجي أساليب للتأثير ضمنيا على سلوكيات السكان.
وفي هذا الإطار، وضعت الحكومة برنامجا لحث الشركات العاملة في مجال الأغذية والمشروبات على تقديم بدائل صحية، فضلا عن أن بعض الأماكن توفر البدائل الصحية بسعر أقل من الأطعمة الشعبية التقليدية.
ولأن سنغافورة تعاني من مشكلة تدني معدل المواليد وزيادة نسبة المسنين، تتطلع الحكومة إلى زيادة عدد السكان بنسبة 30 في المئة مع حلول عام 2030. ووضعت في عام 2001 خطة لمنح مكافأة عن كل مولود جديد، لتشجيع الآباء والأمهات على الإنجاب.
وبموجب هذه الخطة، يحصل المواطنون في سنغافورة على جائزة مالية، منذ شهر آذار 2016، تتراوح بين ثمانية آلاف دولار للطفل الأول وعشرة آلاف دولار للطفل الثالث، وأي طفل لاحق، بالإضافة إلى مبالغ مالية تضاف إلى حساب الادخار للطفل للإنفاق على العناية به والرعاية الصحية له.
وتشير الأبحاث التي أُجريت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى أن الناس يرحبون بهذه المحفزات ما دامت تتفق مع قيمهم ومصالحهم، مثل إتاحة البدائل الغذائية ذات السعرات الحرارية المنخفضة في المطاعم أو سؤال الحاصل على رخصة القيادة ما إن كان يرغب في التبرع بأعضائه.
وخلصت نتائج دراسة أجريت في أستراليا، والبرازيل، وكندا، والصين، وروسيا، وجنوب أفريقيا، وكوريا الجنوبية إلى نفس النتائج. غير أن نسب الترحيب بهذه المحفزات زادت كثيرا في الصين وكوريا الجنوبية، وتراجعت بشكل ملحوظ في اليابان، كما هو الحال في الدنمارك والمجر، بحسب دراسة أوروبية.
وربما ترتبط أيضا نسبة تأييد هذه الأساليب التحفيزية بمستوى الثقة في الحكومة. إذ كانت نسبة تأييد السياسات التدخلية عند أدنى مستوياتها في المجر، ووصلت أيضا نسبة المجريين الذين يثقون في الحكومة إلى 28 في المئة، بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ما لبثت سنغافورة أن نالت استقلالها حتى شرعت في بناء المساكن الحكومية لـتأمين المسكن الصحي والملائم للمواطنين. لهذا السبب فمبانيها شاهقة مكونة من 30 طابقا، أن كل هذه المباني وربما أيضا هذه الأرض، في بعض المناطق، لم تكن شيئا قبل 50 عاما فقط.
وبالرغم من أن البعض قد لا يحبذ هذا الشكل من أشكال التعاقد الاجتماعي الوثيق بين الدولة والمواطن، فإن أحدا لا يُنكر أن سنغافورة خططت بحكمة لمستقبلها. واستطاع هذا البلد الصغير أن يصنع نهضته بنفسه من خلال توجيه سلوكيات الناس وتصميم البدائل بحذر لحثهم على اختيار ما يناسب مصلحتهم.
هناك دول في العالم صنعت لنفسها قصة نجاح وحققت المعجزات ويمكن أن تكون أنموذجا يحتذى من قبل الدول الأخرى فالتجربة الاقتصادية لسنغافورة هي إحدى التجارب الناجحة والتي شقت طريقها بهمة وعزيمة من قبل خبرائها وأبنائها المخلصين فقد استطاعت تلك الدولة الصغيرة ان تلحق بركب التقدم والازدهار في زمن قياسي.
حيث انتقلت من جزيرة منسية إلى دولة مستقلة استوعبت مجريات العصر وأصبحت في زمن قصير أحد أغنى أغنياء بلدان آسيا والعالم وتعتبر قصة نجاح رائدة في العصر الحديث فقد تمكنت تلك الدولة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 746 كيلومترا مربعا أن تصبح أنموذجا للنجاح الاقتصادي العالمي.
لسنغافورة تاريخ حافل بالمهاجرين فسكانها الذين لا يتجاوز تعدادهم 6 ملايين، هم عبارة عن خليط من الصينيين والملايويين والهنود وآسيويين ومن ثقافات مختلفة إلا انهم جميعا متعايشين ومتماسكين هدفهم واحد وهو مصلحة بلدهم فكل واحد حسب معتقداته وله الحرية اختيار ما يناسبه من معتقدات وأفكار، وتعتبر سنغافورة ذات كثافة سكانية عالية حيث إنها تعتبر ثالث دولة في العالم من ناحية الكثافة السكانية بعد ماكاو.
أن سنغافورة تهتم كثيرا بالتعليم منذ الاستقلال ولجميع المراحل التعليمية وتوفر كل الإمكانيات والسبل من أجل تخريج جيل من العلماء في مختلف المجالات.
أن هذا البلد اعتمد في نهضته على 3 موارد أو عناصر والتي هي ركائز وأسس مهمة لأي تجربة تنموية ناجحة وهي الموارد الطبيعية والموارد المالية وأخيرا الموارد البشرية فإذا توفرت هذه العناصر وتكاملت وتم استغلالها الاستغلال الأمثل فإنها يمكن ان تشكل تجربة تنموية ناجحة لأي بلد في العالم.
فالنسبة للموارد المالية فهي مهمة على اعتبار أنها المحرك الرئيس للاقتصاد والتنمية والاستثمار أما الموارد الطبيعية خاصة الأرض فهي عنصر أساسي في العملية التنموية إذا ما استغلت الاستغلال الجيد والمناسب فإنها سوف تساهم في زيادة الناتج المحلي ففي هذا المجال ضرب مثالا حيث قال إن سنغافورة رغم أنه لا توجد لديها ثروة حيوانية إلا أنها تعتبر ثالث منتج ومصدر للحليب المجفف على مستوى العالم.
أهم عنصر من هذه العناصر والذي يدير العملية كلها هو الإنسان أو الموارد البشرية هذه الثروة إذا ما تم تأهيلها وصقلها منذ البداية فإنها يمكن أن تدير عجلة التنمية بجودة عالية واقتدار لذا فإن سنغافورة اهتمت بالتعليم وتجويده واستطاعت أن تبني وتصنع عقول تعاملت مع بقية العناصر بشكل إيجابي وكان لها رؤيتها وأهدافها الواضحة نحو المستقبل وقامت بتطبيق كل ما خطط له من استراتيجيات وبرامج وتعاملت مع كل الظروف لذا وصلت الى ما هي عليه الآن من تقدم وتطوير.
تعتبر سنغافورة حاليا رابع أهم مركز مالي على مستوى العالم كما ويعد مرفأ سنغافورة خامس مرفأ في العالم من ناحية النشاط الاقتصادي، ويوجد بها نظام صحي شبه متكامل جعلها جذّابة ليس لدول آسيا المجاورة طلبا للعلاج فقط بل امتد ذلك إلى دول أفريقيا والشرق آسيا واعتبارا من الستينيات انطلقت سنغافورة في نهضة صناعية شملت كل القطاعات الاقتصادية بما فيها المنتجات الكيميائية والصيدلانية، التجهيزات الإلكترونية، الأنسجة، إضافة الى المنتجات البلاستيكية والمطاطية والفولاذية وغيرها.
كيف يمكننا الاستفادة من هذه التجربة الرائدة؟ وهل يمكن تطبيقها على أرض الواقع؟ وماذا ينقصنا؟ طبعا الإجابة بنعم فكافة العناصر والموارد التي أشار إليها المحاضر تتوفر لدينا إلا انه ينبغي ان نعترف بأننا خلال السنوات الماضية لم نتمكن من صناعة عقول تستطيع ان تواكب عجلة التنمية ولم نتمكن من صناعة مبتكرين ومفكرين وبقينا طوال هذه السنين تحت رحمة مصدر وحيد للدخل، لذا نقول إذا ما اردنا ان نتدارك الأمر ونبني الوطن بشكل افضل فعلينا ان نعيد النظر في نظام التعليم ونتجه نحو تجويده ليس بالقول والاستراتيجيات والدراسات فقط وإنما بالعمل الجاد والمخلص.
هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الأردن وسنغافورة من حيث الظروف والمقومات والموارد وحتى الظروف المناخية في بعض المناطق في الأردن وخاصة العقبة، لهذا كان عنوان هذا المقال ما بين العقبة وسنغافورة، فهل يمكننا أن نصحو يوما على نهضة حضارية متميزة ومتسارعة مثلما حصل في سنغافورة! نأمل ذلك.//