هولندا
هولندا
د. أيّوب أبو ديّة
آلت بي الأحوال أن أصل إلى مدينة الهيج في هولندا مروراً بمدينة فيينا بالنمسا وفرانكفورت بألمانيا؛ ولابد أن أشارك القارئ بانطباعاتي في اليوم الأول عند وصولي إلى هولندا إذ يتذكر المرء النهضة العلمية في أوروبا التي بدأت مبكراً في هولندا وبخاصة اختراع التلسكوب والميكروسكوب والمناشير التي تعمل على طاقة الرياح وما إلى ذلك. ويتذكر العالم الفيلسوف سبينوزا اليهودي الأصل صاحب نظرية وحدة الوجود الذي أثر في الكثير من العلماء والمفكرين فيما بعد.
أما على الصعيد الذي يحب أن يسمعه المواطن العادي حول المشاهدات المباشرة، فأول مشاهدات مميزة يلحظها هناك هي كثرة الدراجات الهوائية، حيث تعتبر هولندا صاحبة أكثر عدد للدراجات للشخص الواحد في العالم ولهم ممرات خاصة بهم ويعاملون بكل احترام من قبل المركبات على الطرق ويحملون أولادهم معهم ولهم دراجات صغيرة ويسيرون بانتظام وهدوء كأنهم طوابير من النمل العامل الجميل.
كذلك من اللافت كثرة المركبات الهيبرد الموفرة للطاقة فضلاً عن أن أغلب المركبات هي صغيرة الحجم على عكس مركباتنا في عمّان. وفي هذه البلاد كثرة من قنوات المياه لان اسم هولندا النيذرلند يعني الاراضي المنخفضة وكثير منها دون مستوى البحر وحتى لا تغرق يتم حمايتها بالسدود والحواجز الترابية. وهناك رحلات بالقوارب تجول في أنحاء المدينة.
ومنسوب المياه الجوفية مرتفع الأمر الذي يجعل من هذه القنوات بمثابة تصريف لمياه الأمطار والمياه الجوفية وهذا ما يؤثر على أبنيتهم الصغيرة جداً بطبيعة الحال. فنتيجة البرد القارص تكون النوافذ صغيرة وبالتالي الهدف منها توفير الطاقة وتأمين الراحة الحرارية ولكن لذلك ثمنا حيث أن الأبواب والنوافذ والأدراج الداخلية صغيرة لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يدخلوا عفش البيت عبرها، الأمر الذي يجعلهم يضعون فتحة في نهاية المبنى يتم سحب العفش منها والأجهزة الكهربائية وما إلى ذلك عن طريق ونش صغير، وهذا ما يجعل الأبنية تميل إلى الأمام؛ فالملاحظ لاستقامة الأبنية في الشوارع يتضح له أن أغلب الأبنية تميل إلى الأمام باتجاه الشارع نتيجة الأوزان التي تتعرض لها الأبنية ونتيجة شبه تشبع التربة بالمياه، الأمر الذي يجعل من حدوث هبوط في التربة في منطقة الثقل الزائد على الواجهة الأمامية امرا ممكنا.
ومن اللافت أيضاً الابتسامة الظاهرة على محياهم وكأنهم يتمتعون بالحياة وبنظامهم السياسي القائم الذي يوفر لهم كافة مناحي الرفاهية والسعادة في حياتهم على الرغم من أنهم يمتلكون منازل صغيرة ومركبات صغيرة وربما دراجة هوائية واحدة فقط، ولكنهم يتمتعون بخدمات عامة مميزة وتعليمهم مؤمن بالمجان والرعاية الصحية كذلك وراتبهم التقاعدي مجز يدعهم يعيشون برفاهية بعد أن يبلغوا سن التقاعد، فلا غرابة اذا أن الابتسامة تعلو وجوههم وبخاصة لانهم يتمتعون بنظام ملكي دستوري ديمقراطي وبنظام انتخابي مميز.
والملاحظ أيضاً الهدوء فلا يوجد من يسير بمركبته بسرعة عالية أو يطلق أبواق المركبات، ولا تشاهد مواكب أعراس تغلق الطريق بل الجميع يلتزم بالقانون إلى أقصى درجات الالتزام وبالتالي فالإنسان هناك يتمتع بحريته الشخصية رفيعة المستوى ولكنه لا يمس حرية الآخرين. والسير على الأرصفة للمشاة في غاية الأمان وللراجل أولوية عند التقاطعات من قبل المركبات والدراجات على السواء.
أن التنقل في أوروبا بعد توحدها عبر الاتحاد الأوروبي، حيث أصبح مجموعها 28 دولة في أوروبا، لا يعترف بالحدود فيما بينها وأغلبها يتعامل بعملة واحدة إذ يعبر الزائر من دولة إلى أخرى من دون أن يتحققوا من جواز سفره، فطالما دخلت من المعبر الأول فأنت حرٌ طليق أن تدور في أرجاء أوروبا من أقصى شرقها إلى أقصى غربها ومن شمالها إلى أقصى جنوبها، وهذه ميزة لاقتصادهم وسياحتهم، حتى العمالة الأوروبية فإنها تنتقل من مكان إلى آخر بحرية وبالتالي حيثما تزدهر الصناعة يتحرك العمال باتجاهها الأمر الذي جعل من الاقتصاد الأوروبي ثالث اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وبالرغم من التمتع بهذا النظام والجمال فان هذا يجعلنا نتألم كيف أن الدول العربية لم تستطع حتى الآن وضع خطة لبناء اقتصاد موحد تمهيداً لبناء الدولة القومية الواحدة. وللأسف حتى اتحاد دول الخليج الذي بني على فكرة اتحاد أصحاب الدخول العالية من النفط والخدمات، لم يحظ بالنجاح بعد أن توترت العلاقات بين هذه الدول في الآونة الأخيرة.
أما النقطة الأخيرة التي كنت أتمنى أن أثيرها هنا تتمثل في أن كافة دول أوروبا تتمتع بوسائط نقل منظمة ومريحة ومعقولة التكاليف حيث أنك تنفق 4 دنانير بالمعدل على تذكرة ممكن أن تستخدمها طوال اليوم على كافة وسائط النقل سواء كانت في الباصات أو في الحافلات أو في الترام أو في القطارات ولمدة 24 ساعة مهما طالت المسافة وتعددت وسائط النقل والرحلات، بينما في الأردن لو حاولت التنقل في الباص إلى عدة مواقع فإنك تنفق هذا المبلغ علماً بأن الحافلة غير مضمونة الوصول أو التوقف في موقع محدد أو في وقت محدد، وللأسف فإذا قارنا بين حافلاتنا التي لا تنتظم بمواعيد ولا تتوقف في مواقف منتظمة وتطلق الدخان الأسود الكريه وتخرج منها أصوات الماتور العالية المزعجة وتسبب أزمة في حركة السير، فإن استخدامها يكلف في عمّان أكثر من استخدام كافة وسائل النقل المريحة والجميلة والهادئة والسريعة وكثيرة التكرار وكثيرة التردد وذات الكفاءة العالية في أغلب الدول الأوروبية بل ربما نقول جميعها.
ختاماً نتأمل من هذه الملاحظات أن تكون حافزاً لنا للتقدم بحيث ننظر إلى مستقبل الأردن في السنوات العشر القادمة ليصبح مكانا مريحا للسكن وتتوفر فيه منظومة معقولة التكلفة للمعيشة حتى نضمن أن يظل أبناؤنا فيها ولا يرحلون عنها في المستقبل.//