الجيل الجديد والتلوث الحضاري

 حنان المصري

عندما كنا صغارا في المدرسة كنا نتزاحم على المقعد الأول في الصف والقريب من الطاولة التي تجلس عليها المعلمة .

فنشعر بالفخر والتميز ،، وعندما كانت المعلمة ترسل طالبة إلى الصفوف المجاورة لاستعارة عصاة من المعلمة لتستخدمها لمعاقبتنا على الفوضى والضوضاء التي حدثت خلال الخمس دقائق الاستراحة بين الحصتين هناك كانت هذه الطالبة تشعر بالفخر والتميز ..

وبالمناسبة كنت احقد على تلك الزميلة عريفة الصف لأنها سجلت إسمي مع المشاغبات مع إنها أكثر مشاغبة مني ،فتلقيت على إثرها عصاتين اذكرهما للآن  ،،

هكذا تربينا وهكذا نشأنا ، نرى المعلم على حق في كل الظروف

كنا أنقياء جدا ولم نتلوث بأفكارخارج حدود مدينتنا

كنا نذهب ونعود من المدرسة مشيا على الأقدام ولم نتذمر ابدا من حقيبة الكتب على ظهورنا ، فكنا متشابهين لا غني ولا فقير.

 

كانت مديرة المدرسة تتفقد طوابير الصفوف في كل صباح بعد "نشيد العلم" ونشيد "بلادي بلادي فداك دمي" كما لو كنا في معسكر .. مريول قصير أو شعر منسدل يندرج تحت بند المخالفة العظمى والتي تستدعي التوقيف والتوبيخ وفي أحيان تستوجب استدعاء ولي الأمر وتلك كانت قمة العقاب وكارثة مدرسية تؤدي إلى الشعور بالخزي والخجل ،،

الرحلات المدرسية كانت رحلات ثقافية استكشافية ترفيهية فذكريات آثار جرش وقلعة "الربض" في عجلون" وصرح الشهيد والمدرج الروماني ومتحف القلعة ومصانع الرصيفة وخزنة البتراء وحتى مصفاة البترول ومحطة الأقمار الصناعية في البقعة لا زالت عالقة في الذهن ، لأنها كانت أول وآخر مرة أراها فيها قبل المراحل اللاحقة من الحياة  ،،

هكذا كانت الرحلات المدرسية في الزي المدرسي ومرافقة المعلمات ومديرة المدرسة بتحفظ شديد واهتمام أشد ، كانت البساطة عنوان تلك المرحلة الجميلة

 

اذكر كم كنا ننسخ الدرس ثلاث مرات ويزيد فهناك حصة للنسخ وحصة الإملاء وحصة التعبير"الانشاء" وكتابة المواضيع بلغة فصيحة خالية من الشوائب ،،

أذكر أن العلامة كانت تنقص إذا لم توضع الهمزة في محلها أو إذا أخطأنا في التشكيل بنسيان ضمة أو فتحة أو كسرة أو حتى سكون أو شدة ، وكنا نحزن أشد الحزن لفقدان نصف علامة ؛ لأننا كنا نأخذ الدراسة بجدية فلم يكن لدينا اي اهتمامات أخرى

 

لنا الآن أن نقارن مستوى ثقافة ابنائنا بعيدا عن تحصيلهم العلمي

لنا الآن أن نعرف أن الذنب ليس ذنبنا ولا ذنبهم فليسوا من غير المنظومة التعليمية بنسفها من أساسها ولسنا من اعاد بناءها بطريقة متطورة !! وليس كل تطور جيدا ، فالتطور أطاح بالعديد من المفاهيم والقيم الاجتماعية حين دخلت التجارة والسياسة على المسار التعليمي فأفرغته من مضمونه

كنا ندرس كتابا اسمه القضية الفلسطينية وكتابا إسمه التاريخ وآخر إسمه الجغرافيا ، كنا نرسم خارطة الاردن ونحفظ خارطة العراق وسوريا وبلاد الحجاز ونعرف ماذا يحدنا من الشمال والجنوب والشرق والغرب

كنا نرسم البحر الميت وبحيرة طبريا وكنا نعرف أسماء المدن والعواصم

كنا ندرس المشاكل التي كانت تواجه المجتمع واكبرها الهجرة من الريف إلى المدينة فاصبحنا اليوم نهاجر من بلدنا الى دول اخرى بحثا عن لقمة العيش وللتمكن من بناء منزل للأسرة بتحويشة العمر في الغربة ..

اما مشكلة محاربة التصحر بزراعة الأشجار الحرجية لكي نمنع انجراف التربة  أصبح الآن اسمها محاربة الإرهاب !!

كم من منهج تم تعديله وحذفه ؟ وكم من الأساليب التعليمية الحديثة الآن لم تمنع اقل ما يمكن من مشكلة التسرب من المدرسة بالقفز على أسوارها ، ولم نستطع ان نمنع الكتابات التنفيسية لهؤلاء الطلاب المتسربين على الجدران !!

هل عرفتم الآن لماذا تردى وضعنا الثقافي والاجتماعي واللغوي ؟؟

هل ادركتم الآن كيف وصلنا إلى هذا المستوى الضحل من المعرفة  ؟//