كم غرر بنا .. والعنوان " مدرسة " !
في الطابور الصباحي ، وبعد السلام الملكي الذي اعشق ، ونشيد ' موطني ' الذي كان يوحد صباحاتنا ويعبئ طموحنا لتحرير الذات والاراضي ، كنت اشعر بعد كل نشيد بدافعية لعبور النهر بغية الانتقام لكل طفل في مرمى نيران المحتل ..ما علينا!
وفي ذلك الطابور حيث الانضباطية والصف المتراص ، كانت معلمة العربي تمارس دورها كمعلمة رياضة ، في اطار عملية ' تسخين ' صباحية حتى ' نصحصح ' ..
اتذكر وزنها الذي لم يكن قادرا حتى على تمثيل دور الرياضي ، وكيف كانت تستشيط غضبا حين لا نوفق في التقاط اشارات حركات هي غير قادرة اصلا على ادائها ، فيما تريد فرض محاكاة تتخيلها ، ومطلوب منا ترجمتها حرفيا ، لتعم الفوضى والعشوائية في الطابور ، فكل طالبة تكون قد التقطت اشارات معلمة ' العرياضة ' ' على ' قدها ' في سياق اداء يشبه كل شيء الا ' السبور '..
ولمن لا يعرف ' العرياضة ' هو مصطلح ليس عربيا بل تكّون في ذهني للتو جراء توأمة قسرية بين مادتي العربي والرياضة !
وفي حصة الرياضة - التي من المفترض انها تبني اجسادا سليمة - كانت عقولنا بصراحة غير سليمة ، كنا نراقص النظرات فيما بيننا ببراءة الاطفال ، اسئلة حائرة عما عساها ان تقدم لنا من جديد ، و سرعان ما يتبدد حماسنا في اول امر منها وبصوت نبرته رفيعة تخترق حواجز الصوت في طبلات آذاننا الصغيرة ، لتصرخ ' دوروا حول الساحة ' حتى ' ندوخ و' تحول ' عيوننا، ونموت من العطش ' ونحن نقضي سحابة حصة دراسية تجتهد فيها تلك المعلمة في ابتداع ' نطنطات ' كما لو اننا في سيرك ، ثم الويل لمن لم ترتد - في ذلك اليوم المشوب بالزهق - الزي الرياضي الذي كان اقرب الى ' البيجاما ' ، لتستبعد الطالبة التي نسيت التقيد به ، وتجلس ' على جنب ' ممنوعة من الدوران واللف ' ، على اساس انها حرمت من اداء اولمبي وميدالية ذهبية ' من الذهب الروسي الدارج هذه الايام .. ! '.
كان مفهوم العقاب في ذلك الزمن اقرب الى تنفيذ اجندة معلمات منه الى الحفاظ على منهجية التدريس وايصال الرسالة التعليمية ، وكأنه مقصود لذاته ، ومن ذلك ان تخفف المعلمة عن كاهلها عبء ادارة العدد الكلي للصف ، عبر اقصاء وعقوبة عدد لا بأس به من الفتيات ، حيث كان يفيض الصف بعدد الطالبات في الفترتين الصباحية والمسائية.
عن اي رياضة نتحدث ونحن لم نتعلم منها الا النط والدوران بالساحة في اطار تدريب يقترب من اللهاث بحثا عن اللاشيء ، قتلا للياقة ، وعن اي رياضة نتحدث وقد شلُّت فينا الروح الرياضية ، والى اي مفهوم رياضي نتطلع ، والمعلمة القدوة نفسها كانت لا تلتزم بارتداء الزي الرياضي بل اغلب حصصها بالتنورة السوداء ' السموكينج الطويلة' والكعب العالي ، اي انها اذا ارادت الركض او جربته ' ستتفركش لا محالة ' ..
كنا نعشق المطر لانه ينذر بالغاء حصة العذاب ، رحمة من السماء ، فكان الامل بمطر يملأ السدود ، ويُعسكرنا في الصف البارد لننظر من النوافذ على ساحة فاضت حفرها بالماء ..
كانت ساحة المدرسة تفترش حفرا متعددة المقاسات ، وكان الركض بها ، يشبه الالتفاف على حقول الالغام خوفا من ' وقعة ' او ' كسرة ' او ' انفجار ' في المخيلة ، اما صنابير المياة النحاسية التي نضطر للشرب منها حيث لا خيار غيرها ، تشكو لنا حالها ، فتنزل المياه شحيحة لا تسهم البتة في تخفيف حدة الحر الناجم عن الركض في الفراغ والمجهول حيث لا خطة ولا منهجية ولا نظم تربوية ولا معلمة مؤهلة ولا رياضة من ' اصلو' .
كانت رياضتنا الحقيقية تنفسيا عن سجن ساحة المدرسة في حارتنا القديمة في احدى الزقاق ' في محافظة الزرقاء '، فكنا نبدع في انتاج منظومة رياضية ولا اروع بين صناعة ' السكوترات ' ، واللعب على ' البسكليت ' بنظام الدور ، والسباق ركضا على ارض الحارة الحُبلى بالتراب والغبار ، بيد انها كانت اجمل اللحظات حيث ابناء الجيران وخليط لا يدرك الا معنى واحد للعيش المشترك ، كلنا اردنيون على ذات الارض من شتى الاصول والمنابت ، في تلك الحارة التي كانت تضم السلطي والخليلي والمقدسي والشركسي والدرزي والمسيحي والمسلم ، كنا جميعا شركاء دون ان ندري في اجمل حصة رياضة في الهواء الطلق وكأن ما نقوم به من شيطنة وركض وتسلق ولهاث ، تعويضا باطنيا عما افتقدناه في مدرسة نسبت درس الرياضة لمعلمة العربي ، فكانت تسرق الحركات الرياضية خلسة من حصة العربي لتكسر خواطرنا ، وترفع ضغطنا ، وتشد اعصابنا ، وتنصب علينا طرق التدريب ، وتضمُنا كتلا لحمية لاجساد غضة تعبت من الفراغ..
منذ تلك العشوائية فهمت ان الرياضة مفهوم هامشي وغير مهم ، قد تقوم به معلمة الدين او الكيمياء او حتى آذنة المدرسة ' ام علي ' ، وهي لوحدها ، قصة اخرى.